الرئيس تبون يأمر باستيراد 10 آلاف حافلة جديدة ويشدد على قوانين أكثر صرامة

هل ستنتهي “مجازر الحافلات”؟ .. الأرقام تتحدث: 57 حافلة متورطة في حوادث مميتة عبر الوطن

هل ستنتهي “مجازر الحافلات”؟ .. الأرقام تتحدث: 57 حافلة متورطة في حوادث مميتة عبر الوطن
  • تهوّر السائقين واهتراء الحافلات ورداءة الطرقات وغياب الرقابة… الخليط القاتل

  • بين القرارات والواقع… هل تنجح التدابير الجديدة في كبح نزيف الطرقات؟

تحوّل الطريق السيار في قسنطينة، مساء الاثنين، إلى مسرح جديد لمأساة مرورية خلّفت 27 جريحا بين الحياة والموت، بعد أيام قليلة فقط من الفاجعة الدموية في واد الحراش التي أودت بحياة 19 شخصا واصابة 23 آخرين.

بين صور الحافلة الغارقة في الوادي وأصوات صفارات سيارات الإسعاف في قسنطينة، وجد الجزائريون أنفسهم أمام سلسلة متلاحقة من الكوارث التي صارت تُعرف في الشارع باسم “حافلات الموت”. هذه الحوادث لم تعد مجرد وقائع معزولة أو “قضاء وقدرا”، إذ كشفت عن أزمة عميقة في قطاع النقل العمومي، حيث تلتقي تهوّرات السائقين بـ”رداءة الطرقات” و”تهالك الحظيرة” وغياب الرقابة الصارمة، لتنتج خليطا قاتلا يحصد الأرواح ويستنزف الاقتصاد الوطني.

 

سلسلة مآس بلا توقف

لم يكد الشارع الجزائري يستفيق من صدمة فاجعة واد الحراش، التي أزهقت أرواح 19 شخصا وأصابت 23 آخرين بجروح متفاوتة، حتى جاء حادث قسنطينة ليعيد مشهد الرعب نفسه. ففي منحدر زواغي سليمان بالطريق السيار شرق–غرب، اصطدمت حافلتان لنقل المسافرين، ما خلّف 27 جريحا تتراوح أعمارهم بين 4 و65 سنة. وبين صور الحافلة الغارقة في الوادي وصيحات الاستغاثة من مكان الحادث، تجلّت حقيقة مرة مفادها أن الحافلات تحولت من وسيلة نقل إلى “قنابل موقوتة” تهدد حياة المواطنين يوميا. هذا التكرار المأساوي للحوادث فتح النقاش مجددا حول واقع النقل العمومي في الجزائر، وخاصة قطاع الحافلات. فـ”هشاشة الحظيرة الوطنية” لم تعد أمرا خفيا، بل صارت حقيقة يلمسها كل من يستقل حافلة مهترئة تجوب الشوارع بأعمار تفوق الثلاثة عقود. ومع أن الحكومة كانت قد أصدرت قرارات في 2022 تقضي بإلزامية الفحص التقني كل ثلاثة أشهر وسحب السجلات التجارية من الشركات المخالفة، إلا أن الواقع الميداني يكشف أن “الإجراءات على الورق شيء، والتطبيق الصارم على الأرض شيء آخر”. الأرقام الرسمية الصادرة عن مصالح الدرك الوطني تعزز هذا الانطباع. فحسب الحصيلة الأخيرة لموسم الاصطياف 2025، تم تسجيل 1622 حادث مرور خلّفت 559 وفاة و2798 جريحا، مع تورط 57 حافلة و400 شاحنة للوزن الثقيل. هذه المعطيات تكشف أن الحافلات، بدل أن تكون وسيلة لنقل آلاف الجزائريين بأمان إلى مقاصدهم، أصبحت في حالات كثيرة جزءا من “إرهاب الطرقات” الذي لا يقل خطورة عن أي تهديد آخر يمس حياة المواطنين. لكن المشكلة أعمق من مجرد أرقام. إذ يرى خبراء في السلامة المرورية أن الأسباب متشابكة: “تهور السائقين”، “رداءة الطرقات”، “ندرة قطع الغيار”، و”غياب الصيانة الدورية”، كلها عوامل تتكامل لتنتج كوارث متكررة. ويشير بعض المراقبين إلى أن الأزمة ليست تقنية فحسب، بل أيضا “ذهنية”، حيث يتعامل بعض السائقين مع حياة الركاب باستخفاف، في غياب ثقافة السياقة الوقائية والاحترام الصارم لقوانين المرور. الحوادث المتلاحقة لا تعكس فقط خللا في سلوك الأفراد، وإنما تكشف عن أزمة هيكلية في قطاع النقل العمومي الذي لم يواكب التطورات التكنولوجية ولم يجدد معداته بالشكل الكافي. وبينما تُسخّر الدولة العشرات من سيارات الإسعاف والوسائل التقنية لإنقاذ الأرواح بعد وقوع الكارثة، يظل التحدي الأكبر هو “منع الكارثة قبل وقوعها”، عبر معالجة جذرية لمسبباتها، لا الاكتفاء بتدابير ظرفية سرعان ما تُنسى مع مرور الوقت.

 

حافلات متهالكة وطرقات متهشمة… أسباب مأساة متكررة

لا يمكن فهم تزايد حوادث الحافلات في الجزائر دون التوقف عند وضع الحظيرة الوطنية للنقل العمومي، حيث ما تزال آلاف الحافلات “تتحدى عامل الزمن” وتواصل العمل رغم تجاوزها 30 سنة من الخدمة. هذه المركبات المتهالكة، التي تفتقد لأبسط معايير الأمان، تتحول في كثير من الأحيان إلى مصائد موت متنقلة، إذ تكفي عطلة ميكانيكية بسيطة أو عطب في المكابح لتحويل الرحلة العادية إلى “رحلة بلا عودة”. ولعل حادثة وادي الحراش، بسقوط الحافلة في الوادي، أبرز دليل على أن تقادم المركبات بات عاملا مباشرا في صناعة المأساة. لكن أعطاب المركبات ليست وحدها المسؤولة، فحالة الطرقات تشكل بدورها معضلة متكررة. تقارير رسمية أكدت أن 37 حادثا في موسم الاصطياف 2025 فقط كان سببه حالة الطريق والمحيط، وهو رقم كاف ليعكس عمق الإشكال. فطرقات مهترئة، حفر مهملة، إشارات مرور غائبة أو غير واضحة، كلها عناصر تضاعف احتمالات وقوع الحوادث. إلى جانب ذلك، يضع المختصون سلوك السائقين في خانة الأسباب الجوهرية. فـ”التهور والسرعة المفرطة” تظل على رأس القائمة، حيث تم تسجيل 376 حادثا بسبب السرعة، و206 حوادث بسبب التهاون وعدم الانتباه. هذه الأرقام تكشف أن الكثير من السائقين يتعاملون مع المركبة كوسيلة للربح السريع على حساب الأرواح. كما أن أزمة قطع الغيار تضيف بُعدا آخر للمشكلة. فقد أدت سياسات تقييد الاستيراد في السنوات الأخيرة إلى “ندرة العجلات وارتفاع أسعار قطع الغيار”، ما جعل العديد من أصحاب الحافلات يلجؤون إلى حلول ترقيعية، أو يضطرون لاستخدام قطع غير مطابقة للمعايير. هذه الوضعية تساهم في إضعاف جاهزية المركبات، وتجعلها أقل قدرة على مواجهة ظروف السير الصعبة، خصوصا في الرحلات الطويلة عبر الطرق الجبلية أو الصحراوية. وبين هذا وذاك، يتضح أن الحوادث المتكررة ليست قضاء محتوما بقدر ما هي نتيجة مباشرة لاجتماع عدة عوامل: مركبات تجاوزت عمرها الافتراضي، طرقات متدهورة، ذهنيات سائقين متهورين، وإجراءات حكومية “لا تزال أسيرة النصوص أكثر من التطبيق”. ومع استمرار هذه المعطيات، يبقى نزيف الطرقات مرشحا للتصاعد، ما لم تُتخذ إصلاحات جذرية تجعل من سلامة المواطن أولوية حقيقية.

 

إجراءات حكومية بين الصرامة والتحديات

أمام تصاعد “إرهاب الطرقات” وما يخلّفه من ضحايا يوميا، لم تقف السلطات الجزائرية مكتوفة الأيدي. فمنذ سبتمبر 2022، تم اعتماد سلسلة من التدابير الهادفة إلى تعزيز السلامة المرورية، في مقدمتها فرض الفحص الفني الإجباري كل ثلاثة أشهر بدل مرة واحدة سنويا، وتشديد الرقابة على شركات النقل، مع إلزامها بتناوب السائقين في الرحلات الطويلة، وسحب السجل التجاري من الشركات المخالفة. هذه الإجراءات عكست إرادة حكومية واضحة في مواجهة الظاهرة، ومحاولة كبح جماح التهاون الذي ميّز تسيير هذا القطاع الحيوي. غير أن الواقع على الطرقات أظهر أن “القوانين وحدها لا تكفي”، فالمشكلة تكمن أساسا في غياب آليات تطبيق صارمة. ورغم النصوص التي تلزم شركات النقل باحترام معايير السلامة، ما زالت العديد من الحافلات المتهالكة تجوب الشوارع والطرقات السريعة، وما زال سائقون يقطعون مئات الكيلومترات دون راحة، في خرق واضح لقاعدة التناوب. هذا الفارق بين التشريع والتطبيق يجعل الإجراءات أقرب إلى وعود ورقية، ويجعل المواطن يتساءل: أين الرقابة؟ وأين المحاسبة؟ كما أن الأزمة الاقتصادية تضيف بعدا آخر من التحدي. فـ”أصحاب الحافلات يرفضون أن يكونوا كبش فداء”، معتبرين أن قدم المركبات ونقص التجهيزات هو نتيجة مباشرة لـ”أزمة قطع الغيار وارتفاع أسعارها بسبب القيود المفروضة على الاستيراد”. هذا الموقف يعكس معضلة مزدوجة: من جهة، حرص الدولة على فرض الانضباط، ومن جهة أخرى، صعوبة استجابة الفاعلين الخواص بسبب التكاليف الباهظة لتجديد الحظائر أو صيانة المركبات بشكل دوري. ويتضح من كل ذلك أن الجزائر تحتاج إلى “انتقال من التدابير الظرفية إلى السياسات المستدامة”. فالحلول الجزئية – من قبيل حملات تحسيسية أو مراقبة موسمية – أثبتت محدوديتها، ما يستدعي رؤية شاملة تربط بين تحديث البنية التحتية، وتطوير منظومة التكوين، وتوفير وسائل تمويل لتجديد الحافلات، مع فرض رقابة يومية صارمة على الفاعلين. وحدها هذه المقاربة المتكاملة قادرة على كسر حلقة المآسي المتكررة، وتحويل شعار السلامة المرورية إلى واقع يحمي أرواح الجزائريين.

 

 

الإصلاح والنهوض بنقل عمومي آمن

السلطات الجزائرية تدرك أن مواجهة “إرهاب الطرقات” لا يمكن أن تقتصر على معالجة النتائج بعد وقوع الكوارث، بل تتطلب “مقاربة شاملة” تنطلق من إصلاح عميق لقطاع النقل العمومي. فقد أعلنت وزارة النقل عن قرارات صارمة، أبرزها سحب الحافلات المتهالكة التي تجاوزت 30 سنة من الخدمة في مهلة لا تتعدى ستة أشهر، مع توفير التسهيلات المالية واللوجستية للخواص من أجل تجديد حظائرهم. هذه الخطوة وُصفت بـ”الحل الأمثل” من طرف خبراء السلامة المرورية، باعتبار أن الحدّ من الأعطاب التقنية سيقلل حتمًا من الحوادث المميتة.
بدوره، رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، لم يتأخر في تحويل المآسي الأخيرة إلى قرارات عملية، حيث أعلن خلال اجتماع مجلس الوزراء عن حزمة من الإجراءات “الصارمة والعاجلة” لمواجهة مأساة حوادث الحافلات. وشملت القرارات الاستيراد الفوري لعشرة آلاف حافلة جديدة لتعويض الحافلات القديمة، وكذا توفير مختلف أنواع العجلات للمركبات التي تعاني من ندرة في السوق. كما تقرّر إخضاع السائقين إلى مراقبة دورية والتشديد على ضرورة احترام قواعد منح رخص السياقة، مع تحضير نصوص تشريعية جديدة لعرضها على مجلس الوزراء في الجلسة المقبلة، بما يعكس إرادة الدولة في غلق منافذ التهاون التي كانت سببًا في العديد من المآسي.
غير أنّ ما ميّز هذه القرارات هو شموليتها واتساع نطاقها لتطال كلّ الفاعلين في سلسلة النقل، حيث تقرّر تحميل المسؤولية المدنية للمُتسببين في الحوادث، وتوسيعها لتشمل لأول مرة الجهات المسؤولة عن صيانة الطرقات، ومدارس تعليم السياقة، ومؤسسات المراقبة التقنية، وكل طرف يثبت تقصيره في أداء مهامه. وإلى جانب ذلك، كُلّفت مصالح الدرك والأمن الوطني بـ”تشديد الرقابة وفرض التطبيق الصارم لقانون المرور” عبر كافة التراب الوطني، في مسعى يهدف إلى وضع حد لـ”إرهاب الطرقات” الذي أنهك الأرواح واستنزف مقدرات البلاد، مع التأكيد على أن الإصلاحات لن تكون ظرفية بل جزءًا من رؤية مستدامة لبناء قطاع نقل أكثر أمانًا وفعالية.
ورغم هذه الجهود والقرارات الهامة يبقى التحدي الحقيقي يكمن في قدرة الدولة على مرافقة هذا التحول بتوفير البدائل. فـ”التجديد لا يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها”، بل يحتاج الى مراحل زمنية مدروسة. كما أن الرقمنة تلعب دورا محوريا، حيث اقترح مختصون تزويد الحافلات بـ”علب سوداء” لمراقبة السرعة والمخالفات بشكل آني، ما يسمح بفرض الرقابة حتى من دون التواجد الميداني المباشر.
من جهة أخرى، يبقى تكوين السائقين أحد الأعمدة الأساسية لأي إصلاح ناجع. فمدارس تعليم السياقة، التي ما تزال تعمل وفق أساليب تقليدية، أصبحت “تحت المجهر”، بعد أن كشفت الإحصاءات أن ضعف التكوين المهني والنفسي للسائقين يشكل سببا مباشرا في العديد من المآسي. لذلك، يطرح الخبراء ضرورة “إدماج ثقافة السياقة” في المناهج، إلى جانب دروس في الميكانيك والتصرف عند الطوارئ، لضمان سائق أكثر مسؤولية وانضباطا.
كما أن تطوير البنية التحتية يظل عاملا لا يقل أهمية عن تحديث الأسطول وتكوين الموارد البشرية. فشبكة الطرقات الجزائرية، رغم توسعها الكبير خلال العقدين الأخيرين، لا تزال تعاني من “نقائص في الصيانة ورداءة في بعض المقاطع”، ما يجعلها مسرحا متكررا للحوادث، خصوصا في الطرق الوطنية والولائية. لذلك، فإن الاستثمار في الصيانة، وتحسين الإشارات المرورية، وتطوير محطات استراحة للسائقين في الطرق الطويلة، يشكل ضرورة ملحّة لإنجاح أي خطة للسلامة.
النهوض بالنقل العمومي يتطلب إرادة سياسية مستدامة تُترجم إلى “إصلاحات ملموسة” تعيد الثقة إلى المواطن في حافلاته وطرقه. فالتحدي اليوم لا يقتصر على تقليص عدد الضحايا، بل يتجاوز ذلك إلى بناء نظام نقل يليق بطموحات الجزائر الجديدة، نظام يضمن حق المواطن في التنقل بأمان وكرامة، ويجعل الطرق وسيلة للحياة لا مسرحا للموت.