55 سنة بعد الاستقلال .. مسار سياسي حافل…بوتفليقة.. من المصالحة إلى الإصلاحات

elmaouid

عاشت الجزائر تاريخًا حافلا، بدءًا من مقاومة المستعمر الفرنسي منذ 1830، حتى نهاية “العشرية السوداء”، مرورا باندلاع ثورة التحرير المجيدة في أول نوفمبر 1954 والتي أنهت عقودا من الألم والمعاناة، وكلفت الشعب مليونا ونصف المليون شهيد، ليبزغ فجر الاستقلال في 5 جويلية 1962 بعد 7 سنوات من الكفاح المسلح.

ورغم أن استقلال الجزائر جاء متأخرا نسبيا مقارنة مع بعض الدول المجاورة، إلا أن مسار بناء الدولة انطلق مباشرة بعد الإعلان عن الاستقلال، وتشكيل النظام السياسي الجزائري، وبلورة رؤيتها السياسية نحو القضايا الخارجية.

واختار قادة الدولة الجزائرية بعد الاستقلال النظام الرئاسي وهو النظام السياسي الذي يقره الدستور، حيث يحتل رئيس الجمهورية هرم السلطة التنفيذية، مثلما يمنحه الدستور صلاحيات واسعة جعلته يمثل مركز ثقل النظام السياسي، كما ينص أيضا الدستور على التعددية السياسية والمؤسسة البرلمانية، لكن تبقى الحظوة للرئاسة فيما يخص العلاقة بين المؤسسة التنفيذية والمؤسسة التشريعية.

 

بومدين يقود إعادة بناء الدولة

وبالنظر إلى المسار السياسي الذي عرفته الجزائر منذ الاستقلال، يمكن أن نستعرض أبرز المراحل التي ميزت العمل السياسي بداية بفترة فرحات عباس (1962-1963) وهو أول رئيس للجزائر، انتخبه “المجلس الوطني التأسيسي” في 26 سبتمبر 1962، لكنه استقال بعد نحو عام، وتحديدًا في 13 سبتمبر 1963، نتيجة خلاف عميق مع وزيره الأول آنذاك، أحمد بن بلة، حول الخطوط العريضة لسياسات الدولة،

ثم جاءت فترة أحمد بن بلة (1963-1965) الذي تسلَّم رئاسة البلد منتصف أكتوبر 1963، عقب عملية استفتاء، ثم عُيِّن أمينًا عامًا للمكتب السياسي لـ”حزب جبهة التحرير الوطني” في مؤتمره المنعقد في أفريل 1964.

بعدها حلت فترة هواري بومدين (1965-1978) الذي تولى حكم الجزائر في جوان 1965، في انقلاب عسكري أطاح حكم أحمد بن بلة، لكن بومدين ظل يحكم البلد بصفته رئيسًا لـ”مجلس التصحيح الثوري”، إلى أن أصبح رئيسًا للجمهورية في 1975، إلى أن تُوفي في 27 ديسمبر 1978.

ويمكن القول أن هواري بومدين بدأ فعليا في إعادة بناء الدولة من خلال ثلاثية الثورة الزراعية والثورة الثقافية والثورة الصناعية على غرار بعض التجارب في المحور الاشتراكي التي كان بومدين معجبا بها.

وغداة استلامه السلطة لم يقلّص هواري بومدين من حجم نفوذ حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم بل استمرّ هذا الحزب في التحكم في مفاصل الدولة، وكان الأساس الذي بموجبه يعيّن الشخص في أي منصب سياسي أو عسكري هو انتماؤه إلى حزب جبهة التحرير الوطني. وقد عمل هواري بومدين بعد استلامه الحكم على تكريس هيبة الدولة الجزائرية داخليا وخارجيا، وفي بداية السبعينات توهجّت صورة الجزائر إقليميا ودوليا وباتت تساند بقوة القضية الفلسطينية وبقية حركات التحرر في العالم، ولعبت الجزائر في ذلك الوقت أدوارا كبيرة من خلال منظمة الوحدة الإفريقية ومنظمة دول عدم الانحياز.

بدأت فترة حكم الشادلي بن جديد في 7 فيفري 1979 وانتهت في 11 جانفي 1992، وهي فترة ميزتها أحداث ورياح سياسية كبيرة، اختلطت بين وفرة مالية أعقبتها أزمة خانقة، وبين انتفاضة الربيع الأمازيغي وصعود التيار الإسلامي، وانفتاح سياسي جارف ولد تعددية وعنفا. الخطوات الأولى للشادلي كانت سهلة بالنظر لأن ارتفاع أسعار النفط التي قاربت يومها الـ40 دولارا مكنت من ملء خزينة الدولة ولم تكن الديون تكاد تذكر. ومثلما رفع مؤتمر حزب الأفلان شعار “من أجل حياة أفضل”، بدأ نظام الشاذلي يضع أول بصماته من خلال برنامج استيراد غذائي لكل أنواع الكماليات، كمؤشر على أن مرحلة الانفتاح التي عاشتها مصر في عهد السادات الذي خلف عبد الناصر وصلت رياحها إلى الجزائر. ولم يكن هناك أدنى تحسب لطارئ في تلك المرحلة لاحتمال انخفاض أسعار النفط التي تعد أهم مصدر للمداخيل الجزائرية بالعملة الصعبة.

 

انتفاضة 5 أكتوبر 1988.. ربيع سابق لزمانه

وعرفت الجزائر منعرجات فارقة في تاريخها، تتمثل في التعددية السياسية والإعلامية التي أعقبت أحداث 5 أكتوبر 1988، حيث استدعي محمد بوضياف (16 جانفي- 29 جوان 1992) إلى الجزائر من قبل قادة الجيش بعد 27 عامًا قضاها خارج البلاد، ونُصِّب في 16 جانفي 1992 رئيسًا للمجلس الأعلى للدولة، لإخراج البلاد من أزمتها بعد إلغاء المسار الانتخابي. وبينما كان يلقي خطابًا بمدينة عنابة في 29 جوان من العام نفسه تم اغتياله، ليتولى علي كافي (1992-1994) رئاسة الجزائر وحتى 30 جانفي 1994، حيث دامت فترة قيادته للدولة الجزائرية عبر “المجلس الأعلى للدولة” لغاية تسليمه السلطة للواء المتقاعد اليمين زروال في 30 جانفي 1994.

 

زروال .. رجل الحوار والنار

وتسلَّم اللواء المتقاعد يومئذ اليمين زروال (1994-1999) الرئاسة الجزائرية رسميًّا في 1995،

الجنرال اليامين زروال العائد إلى السلطة بعد طول تقاعد فقد أحتار من أين يبدأ، فهو يلوّح تارة بالنار وتارة بالحوار.

ويبدو أنّ اللواء اليامين زروال كان يتعامل مع هذه المناورات بكثير من الصمت، ومعروف عن زروال أنّه كثيرا ما كان يتخذ قراراته بعيدا عن الضجيج الإعلامي.

وفاجأ الرئيس اليامين زروال الجميع في 11 سبتمبر 1998 بأنّه سيختصر ولايته الرئاسية التي كان يفترض أن تنتهي في سنة 2000، وأعلن أيضا أنّه سيجري انتخابات رئاسية مبكرة. وفي 11 سبتمبر 1998، أعلن زروال إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، في 15 أفريل 1999، وسلَّم الرئاسة لعبد العزيز بوتفليقة في 27 أفريل 1999.

 

بوتفليقة.. من المصالحة إلى الإصلاحات

استلم عبد العزيز بوتفليقة الرئاسة عقب انتخابات أفريل 1999، التي انسحب فيها منافسوه الستة، قبل يوم واحد من إجراء الانتخابات وباشر لدى توليه الرئاسة سن مسار تشريعي لـ”الوئام المدني”، عرضه في استفتاء شعبي ونال أكثر من 98 بالمائة من الأصوات.

واُنتُخب بوتفليقة رئيسًا للجزائر للمرة الثانية في 8 أفريل 2004، وفاز بنسبة 85 بالمائة، ودافع يومذاك عن مشروع المجتمع الذي يؤمن به، خصوصًا “المصالحة الوطنية”، ومراجعة “قانون الأسرة”، و”محاربة الفساد”، ومواصلة إصلاحات أنجزها خلال فترة رئاسته الأولى.

 

الجزائر ترتاح من ثقل الديون

واستهلكت الجزائر 13 حكومة منذ عام 1999، مثلت الديون المستحقة على الكثير من الدول عبئا ثقيلا في طريق تقدمها وتطورها وركوب قطار التنمية، وقد تمكن بوتفليقة من ذلك من خلال إقناع دائني الجزائر بتحويل ديونها إلى استثمارات داخل الجزائر وبناء اتفاقات أُبرمت عام 2002 مع عدة دول على رأسها فرنسا، وإسبانيا وإيطاليا. وتم تحويل ما يقارب 200 مليون أورو إلى استثمارات مشتركة.

 بعدما دمر الاستعمار الغاشم كل دعائمه قبل أن يخرج ذليلا صاغرا…الاقتصاد الجزائري إصلاحات وتصحيحات هيكلية عميقة

مبتول : قرار بوتفليقة بتصفية المديونية أمر مشجع ومهم

 

شهد الاقتصاد الوطني الجزائري غداة الاستقلال مشاكل جمة ومراحل إصلاحية وتصحيحات هيكلية عميقة جد هامة، صبت في مجملها في بناء المؤسسات وتحقيق سياسة اقتصادية فعالة ومستقلة تؤسس لقيام دولة حديثة عصرية تتماشى ومتطلبات كل مرحلة. فكانت المرحلة الانتقالية من أصعب المراحل الأولى في تأريخ الجزائر والتي عرفت صعوبات ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب بل على الصعيد السياسي والاجتماعي والمالي والمصرفي، ناهيك عن صعوبات في التخطيط وإدارة المخططات التنموية الرئيسية منها، الشيء الذي اعتبر أمرا بديهيا بحسب المحللين السياسيين والاقتصاديين بالنظر للإمكانات الضعيفة والبنية التحتية المتآكلة التي خلفها الاستعمار الفرنسي الذي قتل مليونا ونصف مليون من الجزائريين ودمر كل دعامة من دائم الاقتصاد تدميرا شاملا، ناهيك عن تركه آلاف المشردين واللاجئين والمهجرين والمعتقلين.

وقد شهدت الجزائر بعد السنوات العجاف الاولى مخططات تنموية جد هامة على غرار مخططات التنمية بين 1967 و1979 التي ركزت على الإنتاج الصناعي والزراعي كمحرك وقاطرة للتنمية بهدف زيادة حجم الاستثمارات بما يتماشى وخلق توازنات اقتصادية بين الاستثمار من جهة وقطاع الإنتاج ووسائله من جهة أخرى لتولى الأهمية القصوى فيما بعد للموارد البشرية في عدة قطاعات وميادين كأحد أهم المرتكزات لبناء اقتصاد قوي بحسب كل مرحلة.

 

سياسة الدولة لدفع عجلة التنمية جعلها تندفع في حركة عمرانية واسعة

 

 عرفت سنة 1998 كإحدى المحطات الهامة بداية تعافي الاقتصاد الجزائري من أزمة المديونية المتراكمة من حقبة السبعينات وذلك بفضل ارتفاع أسعار النفط الى غاية 47 دولارا للبرميل تلاها نمو مطرد للأسعار الامر الذي أعطى راحة مالية كبيرة للحكومة آنذك لتجسيد الإصلاحات في القطاعات المختلفة، حيث عملت على وضع مجموعة من البرامج والخطط الإنمائية تهدف من خلالها إلى رفع إنتاجية الاقتصاد الوطني وتنافسية السلع على مستوى السوق المحلية والدولية بالإضافة إلى مواصلة البرامج الاجتماعية حيث استطاعت الحكومة في إطار المخطط الثلاثي ( 2001 و2004 ) وسمّي برنامج دعم الإنعاش الاقتصادي، تخصيص غلاف مالي قدره 525 مليار دج أي حوالي 7 ملايير دولار أمريكي ليصبح في نهاية الفترة 1.216 مليار دج اي ما يعادل 16 مليار دولار أمريكي بعد إضافة مشاريع جديدة له وإجراء تقييمات لمشاريع سابقة وفي المخطط الخماسي الأول (2005و2009 ) ويسمى البرنامج التكميلي لدعم النمو أمكن من تخصيص مبالغ مالية أولية بمقدار 8،705 ملايير دج أي 114 مليار دولار أمريكي لتصبح في نهاية الفترة 9.680 مليار دج أي حوالي 130 مليار دولار أمريكي بعد إضافة عمليات إعادة التقييم للمشاريع الجارية ومختلف التمويلات الاضافية الاخرى فيما خصص للمخطط الخماسي الثاني( 2010و2014 ) ويسمى برنامج توطيد النمو الاقتصادي تخصيص مبالغ مالية إجمالية قدرها 21.214 مليار دج ما يعادل 286 مليار دولار أمريكي ويدخل هذا البرنامج ضمن سياسة الإقلاع الاقتصادي وبعث حركية الاستثمار والنمو من جديد وتدارك التأخر في التنمية الذي سببته الأزمة الأمنية خلال فترة التسعينات .

 

750 ألف مؤسسة مصغرة و300 ألف متوسطة وفرت مليون منصب شغل

 

كما نتج عن هذه الحركية في إعداد البرامج التنموية استحداث 750 ألف مؤسسة مصغرة و300 ألف مؤسسة متوسطة وفرت ما يقارب مليون منصب شغل، كما انها ساهمت في الناتج الداخلي الخام بنسبة معتبرة بالإضافة الى تسيير ما يقارب 2 مليون سكن في جميع البرامج والصيغ المختلفة والذي اعتبر من بين القطاعات المهمة والأساسية والنشطة التي تتطور تطورا سريعا لمواجهة الحاجيات الأساسية التي تفرضها سياسة الدولة لدفع عجلة التنمية، الأمر الذي جعلها تندفع بحركة عمرانية واسعة خلال السنوات الاخيرة ما أدى الى زيادة الطلب على السكن بمعدلات قياسية

 

بيان أول نوفمبر أعطى حيزا هاما للبعد الاجتماعي في الاقتصاد الوطني

 

ويعتبر السكن من بين القطاعات الحيوية الهامة التي لها ارتباط وثيق بالجانب الاجتماعي الذي اعطى له بيان 1 نوفمبر 1954 حيزا هاما، حيث أولت الدولة الجزائرية، عبر حكوماتها المتعاقبة، أهمية بالغة للبرامج السكنية منذ 1962 وخصوصا في مرحلة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة حيث أخذت على عاتقها بناء مختلف الصيغ لاستيعاب عدد العائلات الجزائرية خاصة الذين تدفقوا من الأرياف الى المدن.

 

مبتول : لا ينبغي أن تكون لنا نظرة سوداوية إزاء الاقتصاد الوطني

 

ويؤكد الخبير والمحلل الاقتصادي عبد الرحمان مبتول لـ “الموعد اليومي” بأنه لا ينبغي علينا اليوم كجزائريين بعد كل الأشواط التي قطعناها منذ الاستقلال أن تكون لنا نظرة سوداوية إزاء الاقتصاد الوطني للبلاد بشكل عام بالرغم من كثير من المآخذ والمطبات والملاحظات، مشيرا إلى الذين يتحاملون على رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة اليوم إنما يملكون نظرة قاصرة للأشياء على اعتبار أن الرجل في مراحل حكمه جسد العديد من الإنجازات التي يجب الاشادة بها على غرار برامج السكن التي جسدت على أرض الميدان والتي شهدت حركية متسارعة لم تسبق من قبل كالطريق السيار شرق غرب ومشاريع أخرى حتى مع وجود بعض التحفظات .

 

+ الجزائر مطالبة بتغيير سياستها الاقتصادية والخروج من التبعية للمحروقات

 

وأوضح عبد الرحمان مبتول بأن اقتصاد الجزائر فيه إيجابيات وجب ذكرها كما توجد سلبيات يجب ذكرها كذلك أبرزها أن الحكومات المتعاقبة من الرئيس هواري بومدين مرورا بالشادلي بن جديد إلى علي كافي إلى اليامين زروال كانت كلها تنادي بضرورة أن يكون الاقتصاد خارج المحروقات لكن الميدان كان يثبت دائما -بحسبه -أن الجزائر ما تزال تعتمد بشكل كبير على المحروقات بنسبة 97 في المائة بالرغم من تحقيق بعض الإنجازات خارج قطاع المحروقات.

كما أوضح المتحدث أن الجزائر اليوم مطالبة بتغيير سياستها الاقتصادي مواكبة للعصر ومتطلباته وفق شروط وقواعد معينة ذلك إن أرادت السير في ركب الكبار والاصطفاف مع الدول المتقدمة وبالتالي لا يجب عليها -يؤكد-الاعتماد كليا على قطاع المحروقات خصوصا وأن 70في المائة من القدرة الشرائية مرتبطة بهذه الأخيرة ناهيك عن الدينار المرتبط هو الاخر باحتياطات الصرف الخارجي فضلا عن المؤسسات سواء الخاصة أو العمومية التي لا يفوق انتاجها 70في المائة وهي عوامل -يضيف- تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد.

 

 

القطاع الصناعي، الحكم الراشد ومحاربة الفساد أولوية لتقوية الاقتصاد

 

وشدد المتحدث ذاته بأن هناك عوامل جد إيجابية تشجع على عملية تغيير السياسيات الاقتصادية خصوصا بعد قرار رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة الأخير الذي أمر فيه بتصفية المديونية التي هي الآن أقل من 4 مليار دولار، مضيفا بأن هذه الخطوة مهمة يجب أن تليها خطوات أخرى مثل التركيز على الحكم الراشد ومحاربة الفساد والاستمرار في تدعيم الفئات الضعيفة داخل المجتمع، في إشارة للبعد الاجتماعي الذي لم تتخل عنه الدولة ضمن سياستها العامة منذ الاستقلال.

في السياق ذاته ذكر  المتحدث نفسه بأنه وبصفته خبيرا اقتصاديا كان دائما يقدم ملاحظاته بشأن القطاع الصناعي في عهد عبد السلام بوشوارب الذي لم يكن يسير بالطريقة الصحيحة المرجوة، ما أضعف الاقتصاد الوطني وأدخله في دوامة من المشاكل كنا في غنى عنها، هذا الاخير اعتبره بمثابة قطاع يشكل ثقلا اقتصاديا كبيرا يجب أن يتم تسييره بطريقة عقلانية.

 

بعدما أثبتت حيادها وصواب رؤيتها إلى القضايا الإقليمية والدولية…الديبلوماسية الجزائرية ..علامة مطلوبة للوساطات وحل النزاعات

 

 عرفت الدبلوماسية الجزائرية منذ الاستقلال وانضمامها لمنظمة الأمم المتحدة إنجازات كبرى في ظل نشاطها المكثف على أكثر من صعيد بشكل جعل منها “علامة” مميزة في الوساطات والجهود لحل القضايا الإقليمية والدولية، مستندة إلى مواثيق الثورة الجزائرية التي سطرت خط السياسة الخارجية وانطلاقا من “الارث الديبلوماسي ” لجبهة التحرير الوطني وفي مقدمتها دعم حق الشعوب في تقرير مصيرها وحقها في السيطرة على ثرواتها ومقدراتها الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير ورفض حل النزاعات بالقوة.

 تكرّس دور الجزائر الفعّال على المستوى العالمي بعد انضمامها إلى المنظمات الإقليمية والدولية، كما هو الشأن لهيئة الأمم المتحدة في 08 أكتوبر 1962، ودورها في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية في 25 ماي 1963 ثم الاتحاد الإفريقي في 09 ماي 2002 بجنوب إفريقيا، إضافة إلى عضويتها الدائمة في حركة عدم الانحياز وانضمامها أيضا إلى الجامعة العربية في 16 أوت 1962، إلى جانب أنها عضو مؤسس لمنظمة التعاون الإسلامي بقمة الرباط في 25 سبتمبر 1969، ومبادرتها في تفعيل مشروع المغرب العربي، الذي تجسد في قمة زرالدة بتاريخ 10 جوان 1988.

وانطلاقا من  المبادئ السامية للثورة، لعبت الجزائر المستقلة في إصدار توصية الأمم المتحدة المتعلقة بأهمية عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وذلك في دورتها الـ 29 لعام 1974، هذه الدورة التي ترأسها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بصفته وقتها وزيرا للشؤون الخارجية في حكومة الرئيس الراحل هواري بومدين  وأدار جلساتها بحكمة واقتدار ميزتها عن دورات الجمعية العامة الأخرى، حيث تم خلالها أيضا تمكين ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية من المشاركة فيها وإلقاء كلمته المشهورة أمامها وكذا اتخاذ قرار لا يقل أهمية وهو تجميد عضوية نظام جنوب إفريقيا العنصري في الأمم المتحدة. كما كان للجزائر في  السنة نفسها الدور البارز في الدعوة إلى إقامة نظام اقتصادي عالمي يراعي مصالح دول الجنوب وذلك خلال قمة منظمة دول عدم الانحياز.

وأدت الجزائر دورا بارزا في تسوية النزاعات، من خلال الوساطات التي قامت بها كما هو الشأن لمسألة تحرير الرهائن الأمريكيين في إيران سنة 1982، وإيجاد حل للنزاع بين العراق وإيران سنة 1975، واتفاق السلام بين أثيوبيا وإريتريا في سنة 2000. ورغم الظروف الصعبة التي مرت بها الجزائر خلال العشرية السوداء وغياب دورها على الساحة الدولية، إلا أنها سرعان ما استعادت مكانتها بعد انتخاب رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة سنة 1999.

ونذكر في هذا الصدد، المؤتمر رفيع المستوى حول الأمن والتنمية والشراكة بين دول الميدان والشركاء من خارج المنطقة الذي احتضنته الجزائر في سبتمبر 2011 بالجزائر العاصمة، وشارك فيه كل من الجزائر وموريتانيا ومالي والنيجر، فضلا عن وفدين رفيعي المستوى يمثلان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

 

من الدبلوماسية الثورية إلى الدبلوماسية التحررية

 

وتكثف الجزائر اليوم جهودها الديبلوماسية على صعيدين بارزين وهما الأمني والاقتصادي ، فالملف الأمني والسياسي يتقدمه ملف الارهاب الدولي التي ساهمت فيه في تجريم دفع الفدية ودفع بها هذا الأخير إلى ملفي الجوار مالي وليبيا حيث  قامت الدبلوماسية الجزائرية بدور مهم للغاية في قيادة فريق الوساطة الدولية في هذا الملف المالي الشائك لمدة حوالي عام ونصف العام ( جانفي 2014- أفريل 2015) ، الذي توج بالتوقيع على ميثاق السلم والمصالحة مع آلية للمتابعة والتنفيذ ترأسها الجزائر أيضا، وهي تواصل مهمتها في هذا المجال بدون كلل أو ملل لتنفيذ مضمون الميثاق مع الاستمرار في دعوة الأطراف الإقليمية والدولية المعنية لتقديم كل المساعدة في هذا المجال.

أما الأزمة الليبية فقد تعاملت الجزائر معها انطلاقا من مبادئ سياستها الخارجية وخبرتها العملية في حل الأزمات الدولية مثل أزمة مالي وغيرها من الأزمات وتجربتها الوطنية لإطفاء نار الفتنة وإرساء المصالحة الوطنية وخاصة منذ تعيين الأمم المتحدة لمبعوثها لهذا البلد السيد برنادينو ليون في أوت 2014، وقامت بجهود معتبرة، استضافة العديد من اللقاءات التي ضمت كل الأطراف الليبية التي اقتنعت بصحة المقاربة الجزائرية بعد أن كان بعضها يعتقد أن الجزائر قد وقفت إلى جانب طرف بعينه.

وفي إطار مكمل لعبت الجزائر أيضا دورا مهما على مستوى اجتماعات دول الجوار وكذلك الاجتماعات الدولية، من منطلق المحافظة على وحدة ليبيا والوقوف على مسافة واحدة من كل الأطراف المعنية والتأكيد على أهمية تشكيل حكومة توافق وطني وهو ما تم، وهي تواصل العمل لدعم هذه الحكومة قولا وعملا وقد كان الوزير عبد القادر مساهل أول وزير عربي يزور طرابلس بعد انتقال حكومة التوافق إليها من تونس في المدة الأخيرة.

وعلى الصعيد الاقتصادي، تقود الديبلوماسية الجزائرية جهودا إضافية للحد من انهيار أسعار البترول وقد كانت فاعلا محوريا في تحقيق الإجماع خلال قمة فيينا المحددة لسقف الإنتاج.

ويجمع الخبراء على النقلة النوعية والمتزنة في  الوقت نفسه للدور الفاعل للدبلوماسية الجزائرية التي انتقلت من الدبلوماسية الثورية إلى الدبلوماسية التحررية ومنها إلى دبلوماسية فك العزلة عن الجزائر خلال الأزمة الأمنية التي شهدتها البلاد في التسعينات من القرن الماضي، وأخيرا إلى دبلوماسية السعي لتوفير الأمن والأستقرار بكل ربوع العالم.