الخطبة

الخطبة

كانت تقف أمام المرآة كعادتها تنظر إلى نفسها بغضب وحنق، تتمنى لو لم تكن هي بل شخص آخر، لقد كرهت تلك الملامح وذلك الوجه المستدير الذي يقال لها دوما إنه جميل ووسيم، تمر بيدها على شعرها الأشقر، تتحسس رقبتها الملساء المستقيمة كنخلة شامخة وتستقر راحة يدها على خصرها الممتلئ تحس بمرارة أليمة في حلقها، تبتلع ريقها في يأس ثم ما تلبث أن تحدق بعينيها الخضراوتين في المرآة وكأنها ترى نفسها لأول مرة وتنفجر ضاحكة ضحكة اليائس الذي يخفي آلامه ويتستر على جراحه الدامية، يا لسخرية الزمن الرديء، الجميع معجب بها بجمالها وأناقتها، الكل يشهد بنبل أخلاقها ورقتها إلا هو وكأنه يمشي معصوب العينين بالرغم من أنه يعمل معها منذ أربع سنوات خلت، وها هو العام الخامس يقبل بلا أمل جديد، بلا تلميح أو إشارة منه تعيد الحياة لقلبها المفتون بحبه وتشفي نفسها العليلة..

تتوقف عن ضحكها المجنون، تسرح شعرها الذهبي بالمشط ثم تتزين ببعض المساحيق وما إن تنتهي لتدير وجهها عن المرآة كي تخرج حتى تتنهد بارتياح بعد أن تتأكد أنه رغم حزنها الشديد وعذابها الأليم لعدم مبالاته بها إلا أنها ما زالت جميلة، فاتنة وتحمل حقيبتها ثم تقفل الباب وراءها وتجتاز السلم المؤدي إلى مدخل العمارة، تمضي بخطوات متأنية حتى تبلغ الشارع وتسير بضع أمتار لتصل إلى المحطة، تقف برهة تستقل بعدها سيارة أجرة لتلتحق بمقر عملها، تمضي ربع ساعة أو أكثر تصل بعدها إلى مكتبها، كان مكتبا صغيرا متواضعا مجاورا لمكتبه ووضعت حقيبتها في الخزانة المحاذية لأحد الجدران ثم تضغط على زر في جهاز الكمبيوتر الموضوع على مكتبها، أخذت تنتقل من موقع لآخر ثم تستقر على الموقع الخاص بالشعر العربي، تشرع في قراءة إحدى القصائد الغنائية المعروفة.. تتذكر جارهم أحمد الذي تقدم لخطبتها أكثر من مرة فرفضته وصدته بسبب حبها للرجل الذي ملك عليها حياتها وجعلها أسيرة مكبلة تضيع منها فرص الحب والزواج فرصة تلوى الأخرى في انتظار إشارة منه وتشعر بغصة أليمة في حلقها ورغما عنها تسقط دمعة من عينيها الجميلتين، سارعت إلى إخفائها بمنديل بعد أن سمعت وقع خطوات تتجه نحو مكتبها، كانت إحدى زميلتها حيّتها ثم سلمتها بعض الملفات

وهي تقول:

أحلام هل سمعت آخر الأخبار؟

وتنظر إلى الملفات التي سلمتها إياها ثم تجيبها غير مكترثة لكلامها:

ماذا حدث أيضا؟ وعن أية أخبار تتحدثين؟

فؤاد، أقصد زميلنا فؤاد سالم.. أقام البارحة حفل خطبة لكنه لم يدعُ أحدا من عمال شركتنا، أليس هذا أمرا غريبا؟

ترتعد فرائصها، يخفق قلبها بشدة، يختفي الدم من وجهها الوردي وتتحول إلى جسد بلا روح، تجحظ عيناها ثم تنهض من كرسيها كالشبح وتصرخ في وجه محدثتها بلا وعي: غير صحيح، افتراء، كذب.. أنت تكذبين.

تستغرب زميلتها ردة فعلها ثم تواصل:

بل إنها الحقيقة، ألم تلاحظي أنه لم يأت للعمل منذ ثلاثة أيام، ألم يكن خلالها يحضر مراسيم خطبته، يا له من ثعلب في حين أننا هنا بالشركة نحبه

ونحترمه لاستقامته ونبل أخلاقه يخفي عنا خبرا كهذا، كان عليه أن يخبرنا كي نحتفل معه.

تخترق تلك الكلمات الأخيرة قلبها فتحس به ينتزع من بين جوانحها فتسقط مغمى عليها..

تشعر زميلتها بفزع شديد ثم تأخذ قارورة ماء كانت موضوعة على أحد رفوف تلك الخزانة الملتصقة بالجدار، بللت وجهها ببعض القطرات، لطمتها على خديها برفق وهي تقول:

أحلام عزيزتي ما بك؟ استيقظي من فضلك.

وتستعيد أحلام وعيها شيئا فشيئا وتساعدها زميلتها على الجلوس على أحد الكراسي المركونة في مكتبها، وقد فكرت في قرارة نفسها وفهمت أن أحلام متيمة بفؤاد وأن خبر خطبته المزعومة قد حطمها وجعلها تفقد وعيها، لكنها كيف لم تلاحظ ذلك وهي التي ترافقها طوال الوقت، ثم إنها لم تتأكد من صحة الخبر، فكيف أسرعت لتعلن لها ذلك، لقد كادت أحلام تموت من هول المفاجأة، يا لها من حمقاء تمتمت بين شفتيها قبل أن تقول بصوت مرتفع:

عزيزتي يبدو أنك متعبة، إن هذا الإغماء سببه الإرهاق، هيا لنخرج قليلا..

ثم ابتسمت وأضافت:

إن الإشاعات تملأ هذه الشركة، لا أعتقد أن فؤاد يفعل هذا، إنها مجرد إشاعة فقط

نظرت إليها أحلام والدموع تكاد تطفر من عينيها وأردفت تقول:

هيا لنخرج، أشعر بأني لا أستطيع التنفس في هذا المكتب.

وخرجتا معا إلى الحديقة المحيطة بمبنى الشركة الضخم، كان الجو ربيعيا والفراشات الجميلة، المختلفة الألوان تحوم حول الزهور الحمراء

والبيضاء التي تتناثر هنا وهناك، كان المكان لوحة فنية حقيقية توحي بالرومانسية والدفء، لكن أحلام تشعر بالضيق والاختناق، وبرعشة خفيفة، وبرودة تعتري جسدها الممدد على سريرها وقد سقط الغطاء من عليها عندما كانت تتقلب ذات اليمين وذات الشمال، ودق جرس المنبه مدويا فأفاقت من نومها العميق ونظرت حولها، فملأ عيناها الضوء الذي بدأ يتسرب من نافذة غرفتها المطلة على الشارع، تنفست بعمق وارتياح وهي تلتقط الغطاء الملقى على أسفل السرير وتقول:

أصبحنا وأصبح الملك لله يا له من حلم مزعج، بل هو كابوس مخيف..

ثم ابتسمت لنفسها وهي تردد: لا بأس إنه مجرد حلم مزعج فقط.

بقلم: أمال عسول