-
رقم يكشف عمق المعركة ويؤرخ لمرحلة اقتصاد نظيف يقوده القانون لا النفوذ
-
من مدريد إلى الجزائر.. العدالة تمتد عبر الحدود لاستعادة أملاك الشعب المنهوبة
-
الثروة المستعادة تتحول إلى رصيدٍ للثقة والتنمية في جزائر تبني مستقبلها
حين نسمع رئيس الجمهورية يؤكد أن الدولة استرجعت “30 مليار دولار” من الأموال والعقارات المنهوبة، ندرك أن الأمر لا يتعلق بإعلان مرحلة جديدة من “اقتصاد ما بعد الفساد”، فالمال المنهوب الذي كان رمزا لزمن العصابة يتحول اليوم إلى مؤشر على عودة الثقة وهيبة الدولة، وإلى دليل عملي على أن محاربة الفساد ليست شعارا سياسيا بل مسارا مؤسساتيا يقوده القانون وتدعمه الإرادة السياسية.
إنها لحظة فارقة تكشف أن الجزائر بدأت تحصي مكاسبها لا خسائرها، وأن معركة استرجاع الأموال ليست نهاية المسار، بل بدايته نحو تنمية تستمد قوتها من تطهير الاقتصاد وإعادة توجيه الثروة إلى حيث يجب أن تكون.
رقم يختصر معركة كاملة ضد العصابة
إعلان استرجاع “30 مليار دولار” حتى الآن أشبه بجرس تاريخي يعلن نهاية مرحلة وبداية أخرى. فهذا الرقم الضخم يلخص في جوهره معركة استمرت سنوات بين دولة أرادت استعادة هيبتها، وشبكات فساد نهبت مقدراتها بلا حساب. إنه رقم يختصر صراع إرادتين: إرادة الهدم التي ميزت زمن العصابة، وإرادة البناء التي تحملها الجزائر الجديدة بقيادة الرئيس تبون. فالحديث عن مليارات الدولارات يعني في الواقع الحديث عن مئات المشاريع التي لم تنجز، وفرص العمل التي ضاعت، والتنمية التي أُجهضت لصالح حفنة من المنتفعين الذين تعاملوا مع المال العام كغنيمة لا كأمانة. هذا الرقم أيضا يعبّر عن “ذاكرة جماعية” لم تندمل بعد، إذ يمثل جرحا وطنيا ظل مفتوحا طوال سنوات من التلاعب والتهريب وغسل الأموال. لذلك، فإن استرجاع هذه المليارات ليس تصفية حساب مع الماضي فحسب، بل إعادة كتابة لتاريخ الدولة الحديثة على أساس جديد قوامه الشفافية والمساءلة. إن ما نهب في زمن العصابة لم يكن مجرد ثروة مادية، بل ثقة شعب في مؤسساته. واليوم حين تُعلن الدولة استرجاع هذه الأموال، فهي في الحقيقة تسترجع أيضا جزءا من تلك الثقة التي اهتزت بفعل الفساد. ومن هنا يكتسب الرقم قيمته السياسية قبل الاقتصادية، لأنه يعيد رسم حدود العلاقة بين المواطن والدولة، ويثبت أن “العدالة لا تسقط بالتقادم” وأن يد القانون قادرة على عبور الحدود لملاحقة الفاسدين أينما وجدوا. ومع أن استرجاع المال خطوة جبارة في حد ذاته، إلا أن دلالته الأعمق تكمن في كونه رسالة ردع لكل من تسوّل له نفسه إعادة إنتاج الفساد بطرق جديدة.
30 مليار دولار.. وقود جديد لاقتصاد نظيف
وحين يتحدث الرئيس عن استرجاع “30 مليار دولار”، فإن الرقم لا يُقاس فقط بما يحمله من أصفار، بل بما يعادله من فرص اقتصادية يمكن أن تغيّر ملامح البلاد إذا أُحسن استثماره. فهذه المليارات وقود حقيقي لإقلاع اقتصادي جديد يقوم على أسس نظيفة وشفافة. يمكن لهذا المبلغ أن يمول آلاف المشاريع الصغيرة والمتوسطة، أو يغطي استثمارات ضخمة في مجالات الطاقة، الصناعة، والزراعة. بل إن قيمته تساوي في بعض التقديرات أكثر من ميزانيات كاملة لقطاعات حيوية كالتربية أو الصحة، ما يجعل استرجاعه حدثا اقتصاديا يوازي إطلاق خطة إنعاش وطنية جديدة من دون ديون أو قروض خارجية. لكن أهمية المبلغ لا تتوقف عند حد التمويل، بل تتعداه إلى رمزية “المال النظيف” الذي يدخل الدورة الاقتصادية بعد أن كان مجمّدا في الحسابات المشبوهة أو العقارات المهربة. إن ضخ هذه الأموال في الاقتصاد الرسمي يعني إضعاف السوق الموازية وتقليص تدفقات الفساد التي لطالما شوّهت قواعد المنافسة وأربكت مناخ الاستثمار. إنها عودة الثروة إلى المسار الشرعي، وعودة الدولة إلى موقعها الطبيعي كفاعل اقتصادي منظم لا كضحية للنهب والفوضى. وهذا التحول يفتح المجال أمام نموذج اقتصادي جديد عنوانه “الثقة قبل الربح”، حيث يُعاد بناء بيئة الأعمال على أسس الشفافية والمسؤولية. والأهم من كل ذلك أن هذه المليارات قادرة على إحداث أثر نفسي إيجابي لدى المواطن والمستثمر على حد سواء. فحين يرى الجزائري أن أموال بلاده لم تضِع في متاهات الخارج، وأن الدولة قادرة على استعادتها، تنبعث فيه الثقة بأن المستقبل يمكن أن يُبنى بإمكاناتنا الذاتية لا بالديون ولا بالهبات. وهنا يتقاطع البعد الاقتصادي مع البعد المعنوي، لتتحول محاربة الفساد من معركة قانونية إلى مشروع وطني للتنمية. ومن هذا المنطلق، يصبح التعاون الدولي في استرجاع الأموال المنهوبة جزءا لا يتجزأ من السيادة الاقتصادية.
من مدريد إلى الجزائر.. العدالة تمتد عبر الحدود
وحين كشف رئيس الجمهورية عن تعاون إسبانيا في تسليم فندق فاخر كان مملوكا لأحد رجال الأعمال الفاسدين، كان الأمر تجسيدا عمليا لمفهوم “العدالة العابرة للحدود”. فاسترجاع أصول مالية أو عقارية خارج البلاد يتطلب جهدا دبلوماسيا مكثفا، وتنسيقا معقدا بين أجهزة الدولة ومؤسساتها الأمنية والقضائية، فضلا عن إرادة سياسية صلبة تضع هذا الملف في مقدمة أولوياتها. هذا ما فعلته الجزائر حين فتحت صفحة جديدة في العلاقات مع دول صديقة، لمجرد أن القضية لا تخص ماضيا سياسيا، بل ترتبط بحق شعب في ثرواته وبحق دولة في سيادتها المالية. لقد مثّل الموقف الإسباني، كما أشار الرئيس، رسالة ثقة متبادلة بين دولتين تربطهما مصالح واحترام متبادل، حيث اختارت مدريد أن تثبت صداقتها بالفعل لا بالقول، وأن تُسهم في تصحيح جزء من الظلم المالي الذي لحق بالجزائر في مرحلة سابقة. هذا النوع من التعاون يثبت أن مكافحة الفساد لم تعد شأنا داخليا فحسب، بل قضية عالمية تتجاوز الحدود، وأن من يهرب المال اليوم لن يجد غدا ملاذا آمنا. وبذلك تنجح الجزائر في نقل معركتها ضد الفساد من داخل قاعات المحاكم إلى فضاء العلاقات الدولية، مستندة إلى شرعية قانونية تحظى بتقدير دولي متزايد. وما يزيد من أهمية هذا التحول هو أن الجزائر لم تكتفِ باسترجاع ما سُرق، بل فتحت آفاق تعاون أوسع مع دول أوروبية أخرى أبدت استعدادها للمساعدة في تتبع الأموال والعقارات المهربة. إنها خطوة تؤكد أن الدولة باتت تمتلك “أدوات القوة الناعمة” التي تجمع بين الدبلوماسية والقانون والعدالة. ومع ذلك، فإن البعد الدبلوماسي لهذه القضية لا يكتمل إلا حين يُترجم إلى نتائج ملموسة على المستوى الداخلي، من خلال استثمار الأموال المسترجعة في مشاريع تُعيد الثقة للمواطن وتُثبت أن العدالة ليست انتقاما بل إصلاحا.
المال المسترجع.. رسالة ثقة للمواطن والمستثمر
وفي زمن تآكلت فيه الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة بسبب تراكمات الفساد وسوء التسيير، يأتي استرجاع “30 مليار دولار” كخطوة تحمل أكثر من معنى. فهي ليست فقط استعادة لثروة مادية، وإنما ترميمٌ لعلاقةٍ كانت على وشك الانهيار بين الشعب والدولة. فحين يرى المواطن أن القانون يُطبّق على الجميع، وأن الدولة قادرة على ملاحقة من نهب المال العام واسترجاعه أينما كان، تتولد لديه قناعة بأن العدالة ليست شعارا سياسيا بل ممارسة واقعية. وهنا تتحول محاربة الفساد إلى عملية بناء ثقة جماعية، تُعيد للمجتمع شعوره بالانتماء، وللمؤسسات احترامها، وللعدالة هيبتها. أما بالنسبة للمستثمر، سواء المحلي أو الأجنبي، فإن هذا الرقم يمثل مؤشرا على نجاعة النظام المالي والقضائي في الجزائر. فالمستثمر يبحث دائما عن بيئة آمنة تضمن له أن القوانين تطبّق بعدل، وأن السوق لا تخضع لهيمنة المال الفاسد أو النفوذ غير المشروع. ومن هذا المنطلق، فإن استرجاع الأموال المنهوبة يرسل رسالة واضحة للعالم مفادها أن “الجزائر الجديدة لا تتسامح مع الفساد”، وأن رأس المال النظيف وحده هو من يجد مكانه في السوق. هذه الثقة الجديدة تُمهّد الطريق أمام تدفق الاستثمارات، وتدعم جهود الحكومة في بناء اقتصاد متنوع ومستدام بعيد عن الريع والاحتكار. كما أن هذا المناخ الجديد يعزز الروح الوطنية لدى المواطن الذي يرى أن المال الذي نُهب بالأمس سيعود اليوم لتمويل المدارس والمستشفيات والمشاريع التنموية. وهنا تتحول العدالة من مجرد إجراء قضائي إلى مشروع وطني لإعادة توزيع الثروة بعدالة وإنصاف.
من مكافحة الفساد إلى صناعة التنمية
وبالحديث عن الفساد كرافعة تنموية، ندرك أن الجزائر دخلت فعليا مرحلة جديدة في إدارة ثرواتها. فالمعادلة لم تعد تقتصر على ملاحقة من سرق المال العام، بل باتت ترتكز على كيفية تحويل ما استُرجع إلى مشاريع إنتاجية تُسهم في خلق الثروة. إن “30 مليار دولار” المسترجعة ليست نهاية المسار، بل بداية مسار أوسع عنوانه “اقتصاد نظيف يموّل نفسه بنفسه”. وهذا ما تعكسه رؤية الدولة التي تضع محاربة الفساد ضمن استراتيجية شاملة لإعادة بناء الاقتصاد الوطني على أسس الشفافية والكفاءة، حيث يُصبح كل دينار مسترجع بمثابة لبنة في صرح التنمية.
هذا التوجه يعيد الاعتبار لمفهوم “الاقتصاد الأخلاقي”، الذي يربط بين النزاهة والمردودية، ويضع الإنسان في قلب العملية الاقتصادية. فمكافحة الفساد لا تعني فقط حماية المال العام، بل ضمان أن تصل الثروة إلى المواطن في شكل خدمات وفرص حقيقية. وبقدر ما تستعيد الدولة أموالها، بقدر ما تستعيد قدرتها على التخطيط طويل المدى من دون خوف من تسرب الموارد أو ضياعها في دهاليز البيروقراطية والريع. إنها مرحلة انتقال من عقلية “الاستنزاف” إلى عقلية “الاستثمار”، حيث يصبح الحفاظ على المال العام جزءا من الثقافة المجتمعية لا مجرد مسؤولية إدارية. ومع استمرار هذه السياسة، يمكن القول إن الجزائر تضع أسس اقتصاد سيادي يقوم على مواردها الذاتية لا على القروض، وعلى الكفاءة لا على الولاء. فالمعركة ضد الفساد كانت ضرورة لحماية الدولة، أما توظيف نتائجها في بناء مشاريع تنموية فهو التحدي الحقيقي الذي سيقيس نجاح المرحلة المقبلة. وهكذا يتحول شعار “محاربة الفساد” من معركة تطهير إلى مشروع بناء، ومن قضية عدالة إلى رؤية مستقبل. وهكذا، فإن الرقم “30 مليار دولار” أصبح عنوانا لمرحلة تعيد صياغة علاقة الجزائر بثرواتها وبمفهوم العدالة ذاته. فالمعركة ضد الفساد تحولت إلى مدرسة في الحوكمة الرشيدة، والمال المسترجع بات شهادة ميلاد لاقتصاد يسعى إلى النهوض بقدراته الذاتية بعيدا عن التبعية والديون. وما بين استرجاع الأموال واستثمارها، تبني الجزائر اليوم جسرا متينا نحو المستقبل، حيث يتحول الماضي المثقل بالنهب إلى طاقة بناء جديدة، وحيث تُكتب معادلة التنمية بأيدٍ نظيفة تؤمن أن الثروة الحقيقية هي في النزاهة قبل الأرقام.