عندما يتعانق التصميم المعماري مع الطبيعة, قصر “إيغزر”… معلم أثري شاهد على فن العمارة القديمة بمنطقة قورارة

عندما يتعانق التصميم المعماري مع الطبيعة, قصر “إيغزر”… معلم أثري شاهد على فن العمارة القديمة بمنطقة قورارة

يشكل القصر العتيق “إيغزر” ببلدية أولاد سعيد بإقليم قورارة بتيميمون بولاية أدرار أبرز معالم التراث المادي الذي ما زال شاهدا على النمط العمراني التقليدي الذي تشتهر به هذه المنطقة.

ويستمد قصر “إيغزر” الذي يبعد عن عاصمة إقليم قورارة تيميمون بـ 12 كلم  خصوصيته التراثية والثقافية من موقعه المتميز المطل على سبخة تيميمون والمتوسط واحات النخيل التي شكلت مصدر رزق السكان الذين يمتهنون الفلاحة التقليدية كنشاط اقتصادي بارز في حياتهم اليومية.

هندسة معمارية لا مثيل لها

وتشكل الهندسة المعمارية التي شيد بها هذا المعلم الأثري العريق منذ قرون خلت بمواد بناء محلية متلائمة مع الطبيعة المناخية والجغرافية لإقليم قورارة أبرز مميزاته لكونها فنا معماريا فريدا من نوعه، حيث عمد السكان الأوائل إلى تشييده على مرتفع صخري يتوسط التجمع السكاني والبساتين الواحاتية في خطوة وقائية تتيح لقاطنيه مراقبة مختلف التحركات والمخاطر المحيطة بالقصر نظرا للأوضاع الإجتماعية التي كانت غير مستقرة في تلك الحقب الماضية.

 

القبائل الزناتية شيدت القصر وكونت النواة الرئيسية

وتشير مختلف الروايات الشفهية لسكان المنطقة إلى أن قصر “إيغزر” شيد من طرف  القبائل الزناتية التي استقرت خلال فترة قديمة بالمكان بعد تكوين النواة الرئيسية في أعلى المرتفع الصخري والتي يطلق عليها “دار الحاسي” بإعتبار أن الماء عنصر الحياة يبني عليه السكان استقرارهم، ليتبعها إنجاز السور الخارجي الدفاعي للقصر مع تزويده بدعامات داخلية تزيد من متانته وتصديه لمختلف العوامل الطبيعية.

برج مراقبة وممرات ملتوية تستقطب الزوار

كما يعلو هذا القصر الأثري الذي ما زال يستقطب الوفود السياحية التي تحل بالمنطقة كونه مقصدا سياحيا هاما، برج للمراقبة تم بناؤه بارتفاع زائد عن السور  الدفاعي لإتاحة الفرصة لمراقبة مختلف التحركات من مسافات بعيدة تحسبا لأي هجوم قد تتعرض له هذه القصبة التي يتم دخولها عبر ممر متصاعد وملتوي.

وتنقسم قصبة “إيغزر” إلى عدة أقسام تشكل مختلف مرافقها الحيوية تحددها الممرات المؤدية إليها، حيث تضم القسم الشرقي والقسم الغربي ودار الحاسي.

ومع مرور الزمن واستشعار السكان بالإستقرار تم توسعة ممرات القصبة وزيادة عدد من المرافق، حيث تم بناء مسجد ودار الضيافة التي حافظت على الطابع المعماري التقليدي للقصر سيما فيما تعلق بالجدران والمداخل الرئيسية.

 

استحداث أربعة أنماط من التوسعات ضمن فضاء القصبة…

وتم استحداث أربعة أنماط من التوسعات إنبثقت عن القصبة شملت إعادة تنظيم الفضاء السكني للقصر وتغيير في النمط الهيكلي شمل الحواجز والخندق والمئذنة وظهور الواحات بمحاذاة سواقي المياه.

ويتكون الفضاء السكني للقصبة من عدة أجزاء تشمل الزقاق، وهو  الممر المسقف  بأخشاب النخيل وأخرى غير مسقفة تتيح ولوج الهواء والإنارة الطبيعية بين بيوت  القصبة وتربط بينها، في حين يوجد المسجد في موقع مربع الشكل بالقسم الشرقي  للقصبة على مستوى المدخل الوحيد المؤدي له للقيام بالصلوات الوقتية، حيث تتطلب وظيفته إيجاد فضاء فسيح يبرز من خلال بقايا أقواس منكسرة تتيح رؤية عموم  المصلين لبعضهم.

ومن بين المرافق التي تضمها القصبة حسب نمط حياة السكان خلال تلك الحقب  الزمنية، توجد “دار القاضي” بالقرب من السوق نظرا لكثافة نشاطه وكثرة النزاعات  الناجمة عن التعاملات التجارية والفضاء العام المعروف بـ “الرحبة” الذي يضم طريقا مؤديا للمسجد إلى جانب “المقام” المتواجد بالجهة الغربية لقصبة “إيغزر” ويتوسط واحات النخيل والقصر يمثله شكله المخروطي وفتحاته ولونه الأبيض، حيث يشكل جزءا من الذاكرة الشعبية لسكان المنطقة.

ويضم الفضاء السكني للأسرة عدة أجزاء تشمل “العتبة” التي توجد عند مدخل البيت للفصل بين محيطيه الداخلي والخارجي، حيث يختار موقعها ليكون في اتجاه معاكس للرمال والتيارات الباردة، إلى جانب “السقيفة” التي تعد فضاء فسيحا مستطيل الشكل داخل البيت يشكل حلقة وصل بين الخارج والفضاء المركزي للمنزل.

كما يضم المسكن المطبخ التقليدي وهو حيز صغير مخصص لإعداد وجبات الغذاء التي  تطهى على الحطب إلى جانب “القوس” وهو مصطلح يطلقه السكان على غرفة استقبال  الضيوف وتجمع العائلة، حيث يستمد تسميته من الأقواس المتواجدة تحت سقفه لإيجاد مناخ مصغر داخل الغرفة يضمن راحة الضيوف، إضافة إلى المخزن الذي يستعمل في حفظ أغراض المنزل والسطح الذي يشكل الجزء العلوي للبيت والذي يعد ضروريا  لاستعماله في المبيت في فصل الصيف.

مواد بناء أولية ما زالت صامدة عبر الأزمان …

وشيدت قصبة “إيغزر” من مواد أولية محلية وطبيعية ما زالت صامدة عبر الأزمان والتي تعتمد أساسا على الطين والرمل والحجارة ومكونات النخل من أخشاب وجريد .

ولجأ السكان الأوائل في بناء هذه القصبة إلى استخدام الحجارة في أساسات الجدران ليتم رصها باستعمال الطين الممزوج بالرمل أو بالتبن لتستخدم أيضا في صنع قوالب الطوب التي تشيد بها الجدران.

كما يتم استخدام مادة الجير الممزوجة بالرمل لتكسية الأسطح بعد إنجاز السقف الخشبي وذلك لأهمية مادة الجير في تماسك التربة وتشكيل طبقة طلبة تمنع تسرب المياه إلى الأسفل من السطح الذي يزود بقنوات سطحية تسمى “القادوس” لصرف مياه سطح المبنى نحو الخارج على مسافة بعيدة عن دار المنزل تفاديا لتضرره وتصدعه.

وتعكس هذه الطرق التقليدية في البناء لمثل هذه القصبات المتواجدة في مختلف أقاليم ولاية أدرار عبقرية الإنسان الذي عمّر قديما بالمنطقة واستطاع بعبقريته التكيف مع طبيعة المنطقة وتطويع عناصرها ومكوناتها المختلفة حسب احتياجات نمط معيشه اليومي والذي مكنه من بعث الحياة في هذه الربوع الصحراوية القاحلة، وفقا لما أفاد به عضو جمعية إيغزر للمحافظة على المعالم السياحية والأثرية ببلدية أولاد سعيد .

وتسعى الجمعية جاهدة لتثمين هذا التراث المادي المبني من خلال إطلاق مبادرات  جمعوية لترميم عينة من المنازل الطوبية القديمة المتواجدة في جوار القصبة لحماية خصوصيتها العمرانية المتميزة بما يضمن استقطاب المزيد من الوفود السياحية الزائرة للمنطقة من سياح وباحثين ومهتمين بالتراث المتنوع الذي يزخر به إقليم قورارة مثلما أشير إليه.

لمياء. ب