-
صناعة جيل واعد… رهان مدرسة المستقبل
-
بين الأرقام الضخمة ونوعية التعليم… تحديات لاتنتظر التأجيل
عاد 12 مليون تلميذ اليوم الأحد إلى مقاعد الدراسة عبر الوطن، في دخول مدرسي غير مسبوق يضع المدرسة الجزائرية أمام أكبر امتحان في تاريخها. فالرقم وحده يكفي ليعكس حجم المؤسسة التربوية كفضاء جامع لكل فئات المجتمع، لكنه في الوقت نفسه يكشف عن تحدي حقيقي يتعلق بجودة التعليم داخل الأقسام. وبين الإصلاحات المعلنة في المناهج، والرهان على الرقمنة، والتكوين المستمر للأساتذة، تبقى الإشكالية قائمة: كيف يمكن تحويل هذا الكم الهائل من التلاميذ إلى قوة بشرية مؤهلة، بدل أن يتحول إلى ضغط يضعف نوعية التعليم ويجعل المدرسة عاجزة عن أداء رسالتها الجوهرية؟
يشكل التحاق 12 مليون تلميذ بمقاعد الدراسة عبر الوطن حدثًا استثنائيًا بكل المقاييس، ليس فقط من حيث الأرقام بل من حيث ما يمثله من ضغط على منظومة تعليمية ضخمة تعد اليوم من أكبر المؤسسات الاجتماعية في البلاد. هذا الرقم يضع الجزائر في مصاف الدول ذات الكثافة المدرسية الأعلى في المنطقة، ويجعل من الدخول المدرسي امتحانًا حقيقيًا لقدرة الدولة على الاستجابة لحاجيات الملايين، من مقاعد وأساتذة وفضاءات دراسية، إلى خدمات يومية أساسية مثل النقل والإطعام والتدفئة.
ورغم أن السلطات اعتادت كل عام على مواجهة تحدي الدخول المدرسي، إلا أن حجم الكتلة العددية لهذا الموسم يطرح تحدي أكثر عمقًا: كيف يمكن ضمان انطلاقة سلسة ومتوازنة في وقت واحد عبر ولايات مترامية الأطراف وظروف مناخية متباينة؟ إن توزيع 12 مليون تلميذ على آلاف المؤسسات يعني ضرورة التحكم في تفاصيل دقيقة تتعلق بالتأطير الإداري والبيداغوجي، وضمان جاهزية المدارس الجديدة التي تعهّدت وزارة التربية بفتحها منذ اليوم الأول. أي خلل صغير في هذا التسيير ينعكس مباشرة على مئات الآلاف من التلاميذ دفعة واحدة.
لكن الأهم من ذلك أن هذا الرقم الضخم يضع الدولة أمام مسؤولية مزدوجة: فهو من جهة يعكس التزامًا اجتماعيًا واضحًا بتعميم التعليم وضمان الحق الدستوري فيه، لكنه من جهة أخرى قد يتحول إلى عامل ضغط كبير على نوعية التعليم إذا لم تتمكن الإصلاحات من تحقيق التوازن بين الكم والنوع.
ولذلك، فإن الرقم 12 مليون أصبح عنوانًا لاختبار شامل للمدرسة الجزائرية كمنظومة تربوية. فإما أن تنجح في تحويله إلى فرصة لصناعة جيل متعلم قادر على حمل مشعل التنمية، أو أن يتحول إلى عبء يثقل نوعية التعليم ويؤخر مسار الإصلاحات. وبين هذين الخيارين، تكمن المعركة الحقيقية التي سيخوضها القطاع طوال السنة الدراسية الجديدة.
بين الاكتظاظ ونوعية التعليم… معادلة صعبة
رغم الجهود الكبيرة والمعتبرة التي تبذلها وزارة التربية، الا أنه لا يختلف اثنان على أن الاكتظاظ أصبح الظاهرة الأكثر حضورًا في المدرسة الجزائرية، حيث تحوّل كثير من الأقسام إلى فضاءات تتكدس فيها الطاولات ويتجاوز عدد التلاميذ سقف الأربعين. هذا الواقع يفرض تحديات مضاعفة على الأستاذ الذي يجد نفسه محاصرًا بين ضيق الوقت وكثرة التلاميذ وتنوع مستوياتهم. فبدل أن يتفرغ لشرح الدروس ومتابعة تقدم التلاميذ، ينشغل بضبط النظام داخل القسم وتوزيع الانتباه على عشرات الوجوه، ما يؤثر بالضرورة على نوعية التعليم والتحصيل العلمي.
إن معادلة الكمّ والنوع في قطاع التربية لا تقتصر على الجوانب المادية فقط، بل تمتد إلى الجانب البيداغوجي أيضًا، فحين يغيب التواصل الفردي مع الأستاذ بسبب الاكتظاظ، يصبح الحديث عن جودة التعليم نسبيًا إن لم يكن مفقودًا. وهنا يطرح السؤال الكبير: كيف يمكن ضمان تكافؤ الفرص بين تلميذ في قسم يضم 25 زميلًا، وآخر في قسم مزدحم يضم 45 زميلًا؟
ولمواجهة هذه المعضلة، راهنت وزارة التربية على افتتاح مؤسسات جديدة وتسريع وتيرة تسليم المشاريع المدرسية في المناطق التي تعرف كثافة سكانية عالية. كما تم اعتماد حلول انتقالية مثل تنظيم الدوامين في بعض الولايات، أو استغلال قاعات متعددة الأغراض وتحويلها إلى أقسام مؤقتة. لكن هذه الإجراءات، رغم أهميتها، تبقى حلولًا ظرفية لا تعالج أصل المشكلة المتمثل في الخلل بين عدد التلاميذ المتزايد والقدرة الاستيعابية للمنظومة.
المناهج الجديدة تحت مجهر التجربة
ومع بداية هذا الموسم الدراسي، دخلت المدرسة الجزائرية مرحلة جديدة من الإصلاح التربوي، من خلال إعادة هيكلة مواد ومواقيت السنة الثالثة ابتدائي. هذه الخطوة محاولة لإرساء رؤية بيداغوجية حديثة تراعي قدرات التلميذ وتستجيب لمتطلبات التطور العلمي والمعرفي. فالمناهج، باعتبارها البوصلة التي تحدد مسار التعليم، أصبحت اليوم في قلب النقاش حول جدوى الإصلاحات وقدرتها على مواكبة حجم التحديات المطروحة.
الحديث عن المناهج الجديدة يكتسب بعدًا خاصًا عندما يوضع في سياق 12 مليون تلميذ. فإعادة صياغة البرامج لتكون أكثر مرونة وواقعية تمثل ضرورة ملحة لتفادي “التكديس المعرفي” الذي يرهق التلميذ ويضعف تحصيله. التجارب السابقة أثبتت أن المناهج الثقيلة تساهم في عزوف التلاميذ عن متابعة الدروس بجدية، وتدفع الأولياء للبحث عن دروس دعم خارجية، مما يوسع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية ويقوّض مبدأ تكافؤ الفرص.
كما أن المناهج الجديدة مطالبة بأن تأخذ بعين الاعتبار التحولات الرقمية والعلمية في العالم. ففي وقت أصبح فيه التلميذ يتعرض يوميًا لفيض من المعلومات عبر الإنترنت والشاشات، لم يعد مقبولًا أن تظل المناهج محصورة في أسلوب تقليدي قائم على الحفظ والتلقين. من هنا، جاء رهان وزارة التربية على جعل الدروس أكثر تفاعلية وربطها بالواقع، بما يسمح بتنمية مهارات التفكير النقدي والإبداعي لدى التلاميذ بدل الاكتفاء بتراكم المعارف النظرية.
غير أن نجاح هذه الإصلاحات يظل مرتبطًا بمدى قدرة المدرسة الجزائرية على توفير الشروط المرافقة لها. فإدخال مناهج جديدة يتطلب تكوينًا نوعيًا للأساتذة، وتوفير الوسائل البيداغوجية اللازمة، إضافة إلى تقليل الضغط العددي داخل الأقسام ليتسنى تطبيق الأساليب الحديثة بفعالية. وإلا فإن الخطر يكمن في أن تتحول هذه المناهج إلى مجرد نصوص على الورق، تعجز عن إحداث الفرق على أرض الواقع وسط زحام التلاميذ وضغط الأعداد.
الرقمنة والألواح الإلكترونية… وعود العصرنة
لا يمكن الحديث عن مدرسة حديثة دون التطرق إلى الرقمنة باعتبارها ركيزة أساسية لأي إصلاح تربوي في القرن الحادي والعشرين. وقد وضعت وزارة التربية هذا الملف ضمن أولوياتها، من خلال مواصلة تعميم استخدام الألواح الإلكترونية كبديل عن المحفظة الثقيلة، فضلًا عن رقمنة الخدمات الإدارية والبيداغوجية. هذه الخطوة تهدف إلى تخفيف العبء الجسدي والنفسي على التلاميذ، وفي الوقت ذاته فتح المجال أمام اعتماد أساليب تعليمية أكثر حداثة وتفاعلية.
لكن إدخال الرقمنة إلى مدرسة تضم 12 مليون تلميذ ليس أمرًا سهلاً، بل هو تحدٍّ معقد يقتضي ربط آلاف المؤسسات بالشبكة، وتزويدها بالبنية التحتية الرقمية المناسبة. فهناك مدارس في المدن الكبرى جاهزة نسبيًا لهذه النقلة، لكن في المقابل ما زالت مؤسسات في المناطق الداخلية والجنوبية تعاني من انعدام الربط الجيد بالإنترنت، وهو ما يجعل من تحقيق العدالة الرقمية بين جميع التلاميذ مسألة صعبة. ومن هنا جاء توجيه الوزير بإعداد قوائم دقيقة بالمؤسسات غير المربوطة لتدارك الفجوة بأسرع وقت.
إضافة إلى ذلك، فإن الرقمنة ليست مجرد توفير أجهزة ولوحات إلكترونية، بل تتطلب تغييرًا في العقلية البيداغوجية للأساتذة والإداريين على حد سواء. فالتعامل مع المحتوى الرقمي يحتاج إلى تكوين مستمر للأساتذة حتى يصبحوا قادرين على استغلال هذه الأدوات بشكل فعال داخل القسم. من دون ذلك، قد تتحول الألواح الإلكترونية إلى مجرد واجهة عصرية لا تختلف كثيرًا عن الكتاب التقليدي، وتفقد قيمتها كوسيلة تعليمية مبتكرة.
ورغم كل هذه التحديات، تظل الرقمنة فرصة تاريخية للمدرسة الجزائرية. فإذا نجحت في تعميمها بشكل مدروس، ستتمكن من تخفيف حدة الاكتظاظ عبر تنويع طرق التدريس، ومنح التلميذ أدوات حديثة تساعده على التعلم الذاتي وتنمية مهاراته الرقمية منذ الصغر. أما إذا بقيت حبيسة التجارب المحدودة والمناسباتية، فإنها ستظل مجرد “وعود بالعصرنة” من دون أثر حقيقي على نوعية التعليم. وهنا يكمن جوهر الرهان في المرحلة المقبلة.
التكوين المستمر للأساتذة… ضمانة الجودة
في أي منظومة تعليمية، يبقى الأستاذ محور العملية التربوية ومفتاح نجاحها. ومع وجود 12 مليون تلميذ على مقاعد الدراسة، تصبح كفاءة الأساتذة عاملًا حاسمًا في تحويل هذا الكمّ الهائل إلى تجربة تعليمية ذات نوعية. لذلك، تراهن وزارة التربية على التكوين المستمر كآلية لتطوير مهارات المدرسين، ومواكبة الإصلاحات الجديدة في المناهج والرقمنة. فالتحدي الحقيقي لا يكمن في عدد الأساتذة فقط، بل في مدى جاهزيتهم لمواجهة ضغوط الاكتظاظ وتنوع المستويات داخل القسم الواحد.
لقد أظهرت التجارب السابقة أن غياب التكوين الجيد يؤدي إلى فجوة كبيرة بين ما تتطلبه المناهج الحديثة وبين ما يقدَّم فعلًا داخل القسم. فالأستاذ الذي لم يتلقّ تدريبًا كافيًا على تقنيات التدريس الحديثة يجد نفسه مضطرًا للعودة إلى الأساليب التقليدية القائمة على التلقين، وهوما يضعف جودة التعليم ويجعل الإصلاحات شكلية. لذلك، يمثل التكوين المستمر ضرورة، خاصة في ظل التحولات السريعة التي يشهدها قطاع التربية عالميًا.
ويكتسي هذا التكوين أهمية أكبر في ظل إدماج الأساتذة المتعاقدين الذين التحقوا حديثًا بالمؤسسات التربوية. فهؤلاء بحاجة إلى مرافقة دقيقة تمكنهم من اكتساب الخبرة اللازمة والتأقلم مع بيئة العمل المعقدة، خصوصًا وأنهم مطالبون بالتعامل مع أقسام مكتظة وضغط يومي متزايد. وإذا لم يحظوا ببرامج تأهيل فعّالة، فإن ذلك سيؤثر بشكل مباشر على التلميذ الذي هو الحلقة الأضعف في هذه المعادلة.
إن ضمان جودة التعليم وسط 12 مليون تلميذ لن يتحقق إلا باستثمار حقيقي في رأس المال البشري للأساتذة. فالتجهيزات والمناهج والرقمنة كلها عوامل مساعدة، لكنها تظل بلا جدوى إذا لم يكن هناك أستاذ متمكن، واثق من أدواته البيداغوجية، وقادر على تحفيز التلميذ. من هنا، يمكن القول إن التكوين المستمر هو الضمانة الأساسية لنجاح أي إصلاح يراد له أن يحوّل الكمّ إلى نوع، والعدد الضخم من التلاميذ إلى قوة بشرية واعدة.
م ع