من انسداد داخلي إلى نموذج عالمي في التحرر
من “شعلة” الـ 22 إلى الاستقلال.. فتية آمنوا بشعبهم وشعب آمن بعدالة قضيته
في عز استتباب استعماري فاق القرن وربع القرن من الزمن، وأزمة داخلية في الحركة الوطنية، ظهرت مجموعة من الشباب الجزائري لتحول أزمة “الانسداد” التنظيمي إلى “شعلة” احتضنها الشعب الجزائري ليمضي
بها إلى الحرية ويبعث للعالم رسالة تحرر ألهمت الشعوب والدارسين لتاريخ الأمم.
شهدت الحركة الوطنية سنة 1953 انشقاقا داخل حركة انتصار الحريات الديموقراطية، بين رئيس الحركة مصالي الحاج وبين أعضاء اللجة المركزية للحركة، ما أحدث أزمة كبيرة وكان سببا في شلل الحركة والمناضلين في المنظمة الخاصة، وفي هذه الأثناء كانوا متابعين من طرف السلطات الاستعمارية ومشردين يتسترون ويتنقلون من مكان لآخر، ليبادر مناضل من بين أعضاء المنظمة الخاصة، وهو محمد بوضياف، بالاتصال ببعض قياديي اللجنة المركزية، منهم حسين لحول ومحمد دخلي وسيد عبد الحميد لتكوين لجنة أعطي لها اسم “اللجنة الثورية للوحدة والعمل” بهدف توحيد صفوف الحركة المنقسمة والدفع بها إلى القيام بالثورة، لكن هذه المساعي باءت بالفشل.
أول اجتماع
سعى بوضياف إلى جمع ما أمكن من مناضلي المنظمة الخاصة المشردين، وتمكن من الاتصال بواحد وعشرين منهم وجمعهم في المدنية في بيت المناضل إلياس دريش، وقرروا القيام بالثورة، فكانت البداية في شهر جوان 1954 بالاجتماع بمنزل المناضل إلياس دريش بحي المدنية. وحضر من المناضلين: باجي مختار، عثمان بلوزداد، رمضان بن عبد المالك، مصطفى بن عودة، مصطفى بن بو العيد، العربي بن مهيدي، لخضر بن طوبال، رابح بيطاط، زبير بوعجاج، سليمان بو علي، بلحاج بوشعيب، محمد بوضياف، عبد الحفيظ بوالصوف، ديدوش مراد، عبد السلام حبشي، عبد القادر العمودي، محمد مشاطي، سليمان ملاح، محمد مرزوقي، بو جمعة سويداني، زيغود يوسف.
تم هذا الاختيار بالتشاور بين بوضياف وديدوش مراد وبن مهيدي المتواجدين في مدينة الجزائر، وأخذوا بالاعتبار التمثيل المنصف لجميع مناطق الوطن. ونظرا لضيق الوقت وصعوبة التنقل لم يجر الاتصال بجميع المناضلين الذين تمّ اختيارهم.
لاحلّ إلاّ القيام بالثورة
عُين بالإجماع مصطفى بن بو العيد رئيسا للاجتماع، ثم قدم بوضياف عرضا شاملا لأسباب الفشل الذي آلت إليه اللجنة الثورية للوحدة والعمل، وختم قوله بأنه لم يبق هناك حل إلاّ القيام بالثورة، ثم استعراض شامل من طرف جميع الحاضرين للإمكانيات المادية والبشرية وخصوصا السلاح المتوفر، فتبين أن السلاح قليل والكثير منه، عبارة عن بنادق صيد ومسدّسات وبعض المفرقعات، وعدد قليل من بنادق حرب وأنّ عدد المناضلين لا يتجاوز ألفا وخمسمائة عبر جميع التراب الوطني.
واتفق الجمع بالأغلبية على القيام بالثورة عاجلا دون تمهل وسطروا الأهداف الأولى وهي الحصول على عدد كبير من الأسلحة عن طريق الهجوم على ثكنات العدو وتجنيد المناضلين وراء الثورة، وعلى كل واحد الشروع في ناحيته بالتحضير لهذا الحدث العظيم.
وبعد كل المناقشات التي دارت بين الجماعة، عُين في الأخير مصطفى بن بوالعيد لمواصلة التحضير، لكنه تنازل وكلف بوضياف، حيث قام بتعيين لجنة متكونة من بن بوالعيد وبوضياف وبن مهيدي وديدوش وبيطاط لتعيين منسق للثورة، على أن المبدأ الذي يجب أن تسير عليه الثورة هو القيادة الجماعية والابتعاد عن الزعامة الفردية.
مجموعة الستة
في شهر أكتوبر 1954 وقع اجتماع في منزل بوقشورة بحي pointe pescade (رايس حميدو)، بعد أن تمّ الاتصال بكريم بلقاسم وموافقته على الانضمام إلى الجماعة للقيام بالثورة. وحضر هذا الاجتماع من يعرفون بمجموعة الستة وهم بوضياف ومصطفى بن بوالعيد والعربي بن مهيدي ومراد ديدوش ورابح بيطاط وكريم بلقاسم، وقد تمّ الاتفاق على تعيين بوضياف منسقا للثورة، وتقسيم التراب الجزائري إلى ستّ مناطق، وتعيين المسؤولين على المناطق: مصطفى بن بوالعيد على المنطقة الأولى (الأوراس) وهو يختار خليفته والذي كان شيهاني البشير، مراد ديدوش على المنطقة الثانية (شمال قسنطينة) ونائبه يوسف زيغود وبعده مختار باجي والأخضر بن طوبال، كريم بلقاسم على المنطقة الثالثة (القبائل) ونائبه اعمر أوعمران، رابح بيطاط على المنطقة الرابعة (وسط الجزائر) ونائبه بوجمعة سويداني، العربي بن مهيدي على المنطقة الخامسة (وهران) ونائبه عبد الحفيظ بوالصوف، والمنطقة السادسة (الجنوب والصحراء) أجّل تعيين المسؤول عنها.
ميلاد جبهة التحرير الوطني
حدّد موعد اندلاع الثورة بالفاتح نوفمبر 1954 على الساعة الصفر، يعني ليلة 31 أكتوبر في جميع المناطق، بدون تأخير أو تقديم على الوقت المحدّد.
كلّف بوضياف بتبليغ هذه القرارات إلى الإخوة الثلاثة الموجودين في القاهرة بعد مطاردتهم من الجزائر من طرف السلطات الاستعمارية، لسبب نشاطهم الثوري، وهم أحمد بن بلة ومحمد خيضر وحسين آيت أحمد. وتم تحرير بيان موجّه للرأي العام الجزائري والعالمي يخبر باندلاع الثورة وبتحديد هدفها وبميلاد حركة تسمّى “جبهة التحرير الوطني” وهو نداء الفاتح نوفمبر.
واتفق الجميع على أنّ تحديد الأهداف التي يقع عليها الهجوم يتكفل به مسؤول المنطقة بمساعدة نوابه، وهي ترمي إلى تحقيق هدفين أساسيين وهما الإعلان عن قيام الثورة وجمع ما أمكن من السلاح من عند العدو.
واقترانا بهذه العمليات المسلحة وزّع منشور وهو “بيان أوّل نوفمبر” ينص على: الإعلان عن قيام الثورة ضدّ الاستعمار وميلاد (جبهة التحرير الوطني) لقيادتها، شرح الأسباب التي دفعت إلى القيام بهذه الثورة وخاصة منها الأزمة التي عرفها حزب الشعب وانقسامه بين الميصاليين والمركزيين.
هدف الثورة هو استرجاع السيادة الوطنية المتمثلة في استقلال الجزائر. والهدف الآلي هو توحيد الشعب الجزائري وراء جبهة التحرير الوطني ثم التعريف بالقضية الجزائرية في الخارج. واستعمال جميع الوسائل السياسية والعسكرية للوصول إلى هذا الهدف.
آخر اللمسات لخريطة المخطط الهجومي في ليلة أول نوفمبر
وبتأسيس جبهة التحرير الوطني وجناحها العسكري المتمثل في جيش التحرير الوطني، كانت المهمة الأولى للجبهة هي الاتصال بجميع التيارات السياسية المكونة للحركة الوطنية، قصد حثها على الالتحاق بمسيرة الثورة، وتجنيد الجماهير للمعركة الحاسمة ضد المستعمر الفرنسي، تحديد موعد اندلاع الثورة التحريرية. وكان اختيار ليلة الأحد إلى الإثنين أول نوفمبر 1954 موعدا لانطلاق العمل المسلح ويخضع لمعطيات تكتيكية – عسكرية، منها وجود عدد كبير من جنود وضباط جيش الاحتلال في عطلة نهاية الأسبوع يليها انشغالهم بالاحتفال بعيد مسيحي، وضرورة إدخال عامل المباغتة.
ثم تحديد خريطة المناطق وتعيين قادتها بشكل نهائي، ووضع آخر اللمسات لخريطة المخطط الهجومي في ليلة أول نوفمبر. وكل هذا بعد أن عرف الشعب الجزائري أن المستعمر الفرنسي لا يهمه المقاومة السياسية، بل استعمال القوة، وأن تحرير الجزائر ليس بالأمر المستحيل.