يقصدها الجزائريون ليلة رأس السنة , “تاغيت”.. سحر الطبيعة وسفر روحاني في ملكوت الله…. فاتنة السياح وقبلة الباحثين عن الدفء والسكينة

elmaouid

على بساط ذهبي ساحر تتموقع فيه قصور قديمة كمارد عملاق يأبى أن يندثر أو ينساه الناس، تحفّه واحات نخيل باسقات شاهدات على عصور مرت من هنا، هي مدينة “تاغيت “.. قلب الصحراء النابض وروحها السابحة في فضاءات الكون..

 بهدوء تام، تسحرك تاغيت بسكونها الرهيب، وتشد أنظارك ببساطها الذهبي الّذي زادته أشعة الشمس فتنة، فتشعر بأنّك في عالم بلا حدود.. وبعد لحظات، تجد بأنّك قد وقعت في حب تاغيت رغما عنك.

يأسرك حب لا يمكن أن تقاومه.. وأمام براعتها في الجذب، تدعوك تاغيت لوقفة تأمل عند مدخلها، مستسلما لشعور داخلي قد لا تعبر عنه الكلمات، لتقف صامتا أمام تحفها الرملية المحاطة بأشجار النخيل.. لتطول لحظات التأمل وقد تصير ساعات من الزمن بدلا من اللحظات والدقائق.

 

بحار رملية تمتص الهموم وتنسي الآلام

عندما تقف عند مدخل “تاغيت ” تطل على لوحة فنية رائعة تتشكل من الجبال والواحات، تجد بمجرد الخروج من القصور، نفسك قبالة كثبان “هموشة”، وهي أعلى قمة كثبانية في تاغيت.

عادة ما يلتف الناس والسواح نصف ساعة قبيل مغيب الشمس، حول خيمة تتوسط كثبان “هموشة”، طلبا للدراجات النارية التي يستمتع بعض الشباب بركوبها، للتزحلق عبر مرتفعات “تاغيت “الرملية.

 

القصر القديم.. مارد الصحراء الشاهد على تاريخ تاغيت

يوجد في تاغيت التي تتبع إداريا لولاية بشار، القصر القديم الذي يعتبر معلما تاريخيا هاما، ويحكي فترة من الفترات المهمة التي عاشها الساوريون في خضم حضارة قامت بالمنطقة، ويشهد القصر القديم اليوم ترميما يتوقع أن يعيد إليه بعض معالمه التي فقدها مع الزمن، وخصوصا فيما يتعلق بمنازل سكانه أو كما تسمى بـ “الديور”.

الداخل إلى هذا القصر لأول مرة لا يعرف كيف يخرج منه، له بابان، أولهما أساسي لإدخال الزوار وباب خلفي يقود إلى ساحة واسعة بها واحات النخيل، حيث تسمع أهازيج وغناء “صحاب المايا” كما يسميها سكان تاغيت وهي مجموعة من النساء يرددن أغان شعبية يطلق عليها “الرحبة”.

وتشتهر هذه المدينة بالمأكولات الشعبية التقليدية كـ “الطعام” و”الشوربة”. والملفت للانتباه في تاغيت وجود “الفقارات”، وهي طريقة بدائية في السقي أثبتت نجاعتها حسب السكان وتستعمل لسقي النخيل بنظام متناسق. بلدية تاغيت تحتوي على 100 ألف نخلة وتنتج 50 نوعا من التمور من بينها “المعسلة واليابسة وحميرة وتيوريغيين وصبع السلطان وغيرها من أنواع التمور”. وفي الليل يخيم السكون على المنطقة والبرد القارس ليستقبلك صباح لؤلؤة الصحراء الجزائرية مع الخيوط الأولى من شمس الصباح.

 

مركز جذب سياحي ينتظر الدعم

تحتوي تاغيت على 100 ألف نخلة وتنتج 50 نوعا من التمور من بينها المعسلة، اليابسة، حميرة، تيوريغيين، صبع السلطان وغيرها من أنواع التمور.

ولجمالها البهي عدت تاغيت كمركز لجذب السواح الذين يزورونها سنويا من داخل وخارج الوطن، ويعتبر فندقها الرئيسي، الذي صممه المهندس الإيطالي Puchita وافتتح سنة 1969 معلما سياحيا ذا ثلاث نجوم، له طاقة استيعاب 120 سرير (60 غرفة) ومطعم يقدم خدماته لأكثر من 200 وجبة ويمكن إقامة يوم دراسي فوق طاقته لـ50 مؤتمرا، إذ توجد به قاعتان للاجتماعات.

 

نقوش صخرية للإنسان الأول ومهرجان سينما عصري

عبر الإنسان البدائي الأول عن بيئته والحيوانات التي عاشت معه بنقشها على الصخر، ويعود تاريخ هذه المحطات من 7 آلاف إلى 10 آلاف سنة قبل الميلاد، كما يعتبر الفن الصخري أهم وأقدم دليل إنساني وثقافي في المنطقة.

وقد مرت الحضارة الأولى في “تاغيت” بمراحل أهمها الفترة البقرية وهي موجودة بكثرة بالأطلس الصحراوي ومميزاتها ظهور قطعان البقر، الغزلان بأعداد كثيرة، ثيران، الأسد وغيرها من الحيوانات.

أما عن الاهتمام العصري فتحتضن المدينة كل عام المهرجان الدولي للفيلم القصير ويسمى المهرجان الذهبي للفيلم القصير، هذا المهرجان هو تشجيع مختلف المواهب الشابة في البلاد لاستكشاف صناعة الأفلام، أملا في أن يبدعوا في هذا المجال وكذا فرصة لعرض أعمالهم على الجمهور الجزائري وكذا الساحة الدولية مع ما تأتي به هذه المهرجانات من تلاقي بين الفن والسياحة في مدينة تعتبر مركز الاثنين بلا منازع.

ويتفاوت تاريخ تلك النقوش ما بين ست وتسع آلاف سنة قبل الميلاد، وهي تصور حياة إنسان ذلك الزمن الّذي يرتدي الجلود، يسكن المغارات ويقتات بالصيد.. ومن ضمن الرسومات التي شاهدناها، حيوانات تعبر عن تلك البيئة، بعضها انقرض وبعضها الآخر ما يزال موجودا، منها الغزال ووحيد القرن.. لكن ما يحز في النفس هو أنّ بعض تلك الرسومات تعرضت للتشويه من الزوار الّذين دونوا عليها بعض العبارات في غياب الرقابة.

فهذه البصمات “التاغتية” الّتي تعود إلى ما قبل التاريخ، هي اليوم بأمس الحاجة إلى من يحميها ويعرّف بأهميتها، لأنّ إهمالها أمر لا يخدم السياحة على الإطلاق، وحان الوقت لأن تتحرك السلطات المعنية لإنقاذ ما تبقى من الفن الصخري، سعيا لمعرفة ماضينا وتشييد مستقبلنا على قاعدته.

ومنذ السنوات الأخيرة، تعرف هذه المحطة الأثرية إقبالا ملحوظا من السواح، من ضمنهم أجانب من إيطاليا واليابان، غير أنّ المؤسف أنّها لا تشكل مقصدا للمختصين في علم الآثار والباحثين.

وعندما تصعد إلى قمة المرتفعات الصخرية الموجودة بهذه المحطة الأثرية-يرجح أنها كانت منطقة عبور في عصور خلت- يظهر نبات “الرمت” الّذي يستخدم لمعالجة لسعات العقرب.. وفي سطح القمة تستقبلك نسمات باردة، وكأنّها مكيف هوائي طبيعي يخلص الزائر من الحرارة التي يشعر بها في الأسفل.

 

سر زوبعة السبعة أيام…

 

هناك زوبعة رملية بـ “تاغيت” تعرف بزوبعة سبعة أيام التي تدوم سبعة أيام بالتحديد، فثوران الرمال في جميع الأجواء يحمي أنثى الغزال من سهام وطلقات الصيادين وأعين ومخالب وحوش الصحراء أثناء مرحلة حضانة الغزال لصغارها والتي تدوم سبعة أيام كاملة. كما تحمل هذه الرياح “حبوب طلع” النخيل وهو ما يعرف عند أهل الصحراء بـ “الدكار” من النخلة الذكر إلى النخلة الأنثى حتى تلقحها وتُثمر تمرا وبلحا، أما التمييز بين النخلة الأنثى والذكر فيكون بشكل أوراق النخلة الذكر التي لا تكون متناسقة وإنما بشكل فوضوي، في حين تبدو أوراق النخلة الأنثى أكثر انتظاما وتناسقا وجمالا.

 

بني كومي أو قبيلة الروابح إحداهما كانت الأقدم في تاغيت

 

ويبدو أنّ هضبة “زوزفانة” التي تقع عليها تاغيت سكنت منذ عصور بعيدة، والقصور وآثارها تثبت ذلك في الحقبة الأجورية، ونظرا لعددهم الكبير سمي سكان الهضبة “قوم”، ومن هذا جاءت تسمية “بني قومي” الاسم الحالي للسكان. وهناك من يقول إنّ أوّل من سكن تاغيت هم قبيلة الروابح (أولاد بلخير فقيق)، وكانت سوقا من زمن الخليل عليه السلام، ويحكى أنّ المنطقة عرفت بازدهارها العلمي والمعرفي، لكن الحرب لم تترك سبيلا لاستقرار العلم بالمنطقة بسبب تكالب القبائل عليها لاكتفائها المعيشي، أمّا في عهد الاستعمار فقد شهدت المنطقة دخول القوات الفرنسية شهر فيفري 1897 بقيادة الرائد غوردن.

 

آثار ضاربة في التاريخ تتعرض للنهب والتخريب

 

تعد المواقع الأثرية في تاغيت شاهدا حيا على هوية المنطقة وأصولها الضاربة في عمق التاريخ، والمتمثّلة في النقوش الصخرية الواقعة على طول وادي “زوزفانة”، والتي عبّر من خلالها الإنسان البدائي الأوّل عن بيئته التي تعود إلى 10 آلاف سنة قبل الميلاد، ولكن رغم وجود جمعية للحفاظ على النقوش الصخرية والديوان البلدي للسياحة، تتعرّض هذه النقوش للسرقة والتخريب والتشويه والاندثار، فضعف الموارد البشرية وجهل سكّان المنطقة لأهمية ذلك الشريط الأثري القيّم أدّى إلى الزوّال التدريجي لتلك الآثار التي لا يتم الالتفات إليها إلاّ خلال المناسبات كشهر التراث.. ولكن بعد انطفاء الأضواء تغرق تلك الذاكرة في ظلام النسيان لتترك غنيمة للإهمال واللامبالاة، وإلى جانب النقوش الصخرية تعرف تاغيت بقصورها القديمة التي يبلغ عددها 47 قصرا قديما، من بينها قصر “عرق الحمام” الذي كان يمتدّ إلى محطة النقوش الصخرية، يدعى سكانه “الأعاجم”، عبّروا بالرسم على الحجارة عن حال عيشهم، وقصر “مزاورو” الذي سكنته قبيلة تدعى “أماسي”، وأهمّ تلك القصور “القصر القديم” أو “العتيق” الذي يعود بناؤه إلى حوالي 08 قرون من طرف الولي الصالح سيدي أحمد أورابح، وتجري حاليا بعض الترميمات لتحويله إلى قبلة للسواح وجعله مستعدا لاستقبالهم.

 

.. مؤهلات هامة تنتظر التنمية والمشاريع الموعودة

 

 

تاغيت اليوم هي وليدة التقسيم الإداري لسنة 1991، تقع على بعد 960 كيلومترا جنوبي غرب العاصمة الجزائرية، تابعة لولاية بشار، يحدّها شرقا العرق الغربي الكبير، شمالا بني ونيف وبشّار وجنوبا إقلي، بني عباس، وغربا العبادلة، وتتربّع على مساحة تقدّر بحوالي 8040 كلم مربع، و مع هذا فهي لم تكن تحتوي إلا على فندق واحد هو “فندق تاغيت”، فالمدينة لم تكن تتوفّر إلاّ على هذه المؤسّسة الفندقية الذي تم تدشينه عام 1971 من وزير الخارجية آنذاك عبد العزيز بوتفليقة رفقة وزير الخارجية التونسي الهادي نويرة، لكن و مع الانتعاش السياحي الذي تعرفه المنطقة لم يعد هذا الفندق قادرا على استيعاب الطلبات، خاصة بعد أن أصبحت تاغيت قبلة للسواح من الجزائر وخارجها، وهذا ما دفع بالمسؤولين لفتح المجال أمام المستثمرين الخواص، و هناك الكثير من المشاريع الموعودة والواعدة.