يرويها السويدي خلال رحلته إلى الجزائر: قصة مغارة «سرفانتس» وسفينة “ماركيزا”

يرويها السويدي خلال رحلته إلى الجزائر: قصة مغارة «سرفانتس» وسفينة “ماركيزا”

ينفرد الشاعر محمد أحمد السويدي بأنه مؤسس «أدب الرحلات» في الإمارات، وهو مشروع تنويري واسع يهدف إلى إحياء هذا النوع من الأدب الجغرافي العريق في التراث العربي. وقد طبعت دار السويدي حتى الآن مئات الكتب من هذا المشروع الثقافي الكبير الذي يهدف إلى تغطية أدب الرحلة العربية الإسلامية خلال الألف سنة الأخيرة.

هنا نذكر لمحات من «رحلة في بلاد الشهداء»، من كتاب «لازورد السماء وتبر الصحراء»، من تأليف الشاعر محمد أحمد السويدي، حيث يستهل رحلته قائلاً:

في أسفلِ الجبلِ بحي «بلوزداد» المطلِ على ميناء العاصمة الجزائرية، زرت – صحبة مجموعة من الأصدقاء- مغارة «سرفانتس»، سرفانتس بلحمه ودمه، الجندي الإسباني الذي ترك حروبه وطواحينه، وعبر المتوسط ليختبئ في مغارة بالجزائر، مبيناً أنها حكاية طريفة ومؤلمة، حدثت للرجل في القرن السادس عشر الميلادي، فالرجل لم يكتب هنا حرفاً من روايته ذائعة الصيت «دون كيخوت»، بل إنه استلهم كثيراً مما تركته الواقعة في نفسه، وضمّن أوجاعها في نصه الذي نشره في جزئين.

ويخبرنا السويدي بأنهم قبضوا على الكاتب عام 1569م بتهمة الاشتراك في مبارزة، وحكم عليه بالنفي عشر سنوات من إسبانيا، وبعد سنتين انخرط «سرفانتس» في الخدمة العسكرية كخيار يجنبه السجن والمنفى، فأبحر على سفينة يطلق عليها «ماركيزا» لقتال العثمانيين، وفي حربه تلك مع الأتراك، أصيب بثلاثة جروح من طلقات نارية، جرحان في صدره، والثالث في يده اليسرى جعله يعاني شللاً وعجزاً دائماً، وبالرغم من هذا شارك في معارك لاحقة بعضها كان في تونس.

ونتابع مع الشاعر السويدي سيرة سرفانتس، حيث يقول: عندما سمح له بالعودة إلى إسبانيا عام 1575م، وقع في قبضة مجموعة من القراصنة البربر فأسروه مع شقيقه «رودريغو» وباعوهما في سوق الرقيق بالجزائر، وعجزت عائلته عن دفع فديته الكبيرة بعدما عثر الخاطفون في جيبه على رسائل توصية من كبار رجال الدولة فظنوه صيداً ثميناً ولم يطلقوه أو يقتلوه، فلبث في الأسر خمس سنوات حتى تمكن أهله من جمع الفدية بمساعدة ثمينة من الرهبان فأُفرج عنه والتحق بعائلته في مدريد.

ويعود بنا الرحالة السويدي إلى الجزائر قائلاً، إن المغارة تستمد أهميتها من كونها المكان الذي اختبأ فيه «سرفانتس»، بعد محاولته الثانية للهروب من الأسر، وعندما بلغنا المكان وجدنا في استقبالنا وزير الثقافة، وسفير إسبانيا في الجزائر، الذي سرد علينا الواقعة بتأثر واضح، وبعد خروجنا من المغارة – التي لا يتجاوز طولها سبعة أمتار وعرضها متران، وتشتمل على غرف ومنحوتات تكونت بفعل الطبيعة، ومن حولها تلتف الأشجار المعمرة، يتخللها أدراج مؤدية إلى الغابة- وجدتني أقول لمرافقي: الأرض يا صديقي تطرد الغرباء، انظر إلى «سرفانتس» كيف انتهى به الأمر في مغارة..!، لم يكن آمنا لأنه لم يكن بين أهله وذويه، إن الجزائر درس كبير للأحرار.

ونتابع مع الشاعر رحلته الجزائرية، فيقول: كان وزير الثقافة قد اقترح أن نقوم بزيارة المتحف الوطني للفنون الجميلة، وهو ليس ببعيد عن المغارة، وقد كانت الزيارة ثمينة، ولا بد لي من القول إنني فوجئت بهذا الكنز المدفون، حيث يتوافر على مجموعة ضخمة من الأعمال لكبار الفنانين الأوروبيين، من الاستشراقيين وغيرهم، وبلغة الأرقام يمتلك المتحف نحو 8000 قطعة فنية؛ لذا فلا نبالغ إن قلنا إنه أكبر متحف للفنون الجميلة في إفريقيا، شيد في الأصل في الورشات المتداعية للمؤسّسة المتخصصة في الفنون الجميلة لصاحبها الفنان «هيبوليت لازيرج» عام 1875م، وافتتح رسمياً للجمهور في أفريل 1931م، أي قبل عام واحد من احتفال فرنسا بالعيد المئوي لاحتلال الجزائر.

وفي المتحف، يطلب السويدي تصوير مخطوطة عن الحلي الجزائرية لفتت نظره، وكانت ذات جودة عالية، وهي مكتوبة بالفرنسية، ولكن عناوينها مترجمة إلى اللغة العربية بخط أندلسي، موضحاً أن مديرة المتحف السيدة دليلة محمد أورفالي تعرف كل صغيرة وكبيرة عن مقتنياته، وفي تلك الزيارة يقترح أن تعرض الأعمال بصورة تضمن أن يتاح لكل عمل منها مساحته الخاصة ليتسنى لرواد المتحف تأمله دون تشتيت أبصارهم، لأن الرسومات تنتشر من فوق المشاهد وتحته وعلى جانبيه، فطريقة العرض جعلت الأعمال متراكبة على بعضها، مع كونها خليط من التيارات والمدارس الفنية المختلفة، كما أن هناك مجموعة منها جدير بها أن تتلقى طريقة عرض خاصة تتوافق مع أهميتها الكبيرة.

وينتقل بنا الشاعر إلى جبل الشريعة في البليدة، حيث توجد أعلاه استراحة هادئة، واصفاً الطريق إلى الشريعة صعوداً، حيث تبزغ مع كل منعطف أشجار الأَرز النادرة، والصنوبر، والبلوط، وبعض البيوت المبثوثة هنا وهناك، وتجمعات صغيرة من الشباب والمخيمين الذين ينعمون بالنزهة في هذا الفردوس الشاهق، أما البُليدة فتتمدد تحت جبل الشريعة مثل حسناء في حل وحلل، وفي الجبال يقترب الشاعر من السماء، فيقول: لقد صلَّيت هناك ركعتين في العشق كان وضوؤهما بماء الجمال الذي قطّره ثلج فبراير، ففي هذا المكان، وأنا تحفني أشجار الأرز الجبلي أشعر أنني في أقرب الأماكن إلى الله، وفي الشريعة لا يمكن لي التفريط بالقيلولة التي يجعلها الصمت والسكينة حاجة جسمانية وروحية.

ولقد سبقنا إلى دار الاستراحة فريق من الطهاة المحترفين، وأعدوا غداءً فاخراً، ثم أخذنا نتجول في محيط المضيف، حيث مشهد الأشجار الباسقة والمنحدرات الخضراء، وكان شح الأكسجين ورائحة الثلج والصنوبر تبعث في الجسد خدراً لذيذاً، ثم تذاكرنا وفرة المياه، وكثرة الورود في جبل الشريعة والبُليدة، وهي تصغير لكلمة بلدة، أسسها المسلمون عقب خروجهم من الأندلس، في المناطق السهلية الواسعة التي تشرف عليها سلسلة جبال الأطلس البليدي.

أما المنطقة الثانية، فتسمى (شفَّة)، وهي محمية طبيعية يجتازها وادي شفة ويقطعها النهر، أما ثالثة مناطق البُليدة فهي حمَّام ملوان، وهو عبارة عن حمَّام كبير شهير، به مياه معدنية طبيعية ودافئة يقصده الناس للراحة، وتشتمل المنطقة على نهر يقصده الناس صيفاً.

ويرى الشاعر محمد السويدي أن البُليدة العتيقة تشتهر بالصناعة التقليدية، وخاصة التطريز على القماش والملابس التقليدية، وتقطير ماء الزهر، ومربّى البرتقال لكثرة وجوده في المنطقة، كما تشتهر بأكلاتها الشعبية الطيبة كـ «الحمامة».

ويختم الشاعر الرحلة، قائلاً: غادرنا الشريعة في الطريق إلى الفندق في الجزائر، تحف بنا ندف الثلج، الذي تحول إلى أمطار لدى وصولنا إلى الجزائر العاصمة.

ب/ص