ما يحتاجه البحر

ما يحتاجه البحر

 

يحتاج البحر لزرقته ليكون البحرَ.. لقطرة ماء فالتة من ضرع الموجِ لأشرعة تتمدّد مثل فراش أبيض فوق زجاج الأفقِ

لأسماك تتراقص مثل بنات الحورِ لشمس ذائبة في حوض الماء كحبّة خوخ يابسة لم تنضج بعدُ، فما معنى أن يترك صيّاد للريح شباكا مفلسة ما دام البحر بلا بحرٍ؟

ما دام الأزرق محض عناء يحمله الربّان الشارد في لوح الاكتافِ؟

وما معنى أن تحمل منديلا وتلوّح للسفن الأثريّةِ؟

كم يحتاج البحر لراكبه ليكون البحرَ

لشيطان ينفض أوقية من ملح غوايته في الرمل

وفي شعب المرجانِ.. وفي الخلجان اليائسة الممسوسة بالأصدافْ

يحتاج البرد لرعشة كفٍّ

قافلة تتحلّق حول غمامة جمر في ليل الطاسيلي الأزرقِ

لسعة عقربة …

وأصابع يابسة تتحجّر في جيب السروال الجينزِ

لجلد منتوف، يتكوّر منكمشا في كنزة صوفٍ

لا يحتاج لأكثر من ريح تتناوح فوق السقف الأمردِ

لا يحتاج لأكثر من جبل ثلجيّ تحمله الأكتافْ

الغيمة لا تحتاج لأكثر من قفر لتصبّ صديد مثانتها

ملعون هذا الصيفُ.. يجرجر أصفرهُ

ويدسّ أصابع كبريت في جلد الوقتِ

وفي فجوات الحلم الإسفنجي

تمرّ الغيمة مثقلة بمخاض الحمل الكاذب

“شيء ما يتحرّك خارج رحم الصدفةِ”

قال الحكواتي المبتور الساقِ

الواقف مشدوها في سوق الجملةِ

يروي عن أخبار أبي زيدٍ ملك الفرسانِ

يشقّ الجيش بمهرة برق جامحةِ

أو يحمل قوس ربابته ليراودها علياء القصرِ

الأرض خيام جاهزة للسلبِ

هلاليون على الطرقات

لصوص مختبئون بزهر الحرملِ

والخشخاش دم يتخثّر فوق رؤوس سنابل يابسة

في حقل ملتهب بالإكزيما، منتوف، منتفخ بالهرش وبالصدفيّةِ

شيء ما يتحركُ

لا أدري

هل ثمّة سقطٌ جاء على عجل يلتفّ بحبل مشيمتهِ

أم أن ركام اللحم ضفادع باردة تتكاثر في طين العبثيّةِ؟

لا أدري

هل أمضي محتملا ملحا في الساحل أم أرتدّ على العقبينِ؟

سلالات من كل الإسطبلاتِ

هلاليون… قرامطة… عبّاسيون… وحشّاشون…

بقايا من ثورات الزنج… قراصنة الفيكينغ… وأتراك عثمانيون

أنا المشنوق على حيطان تدلّلها

المفتون بسمرتها

لا أملك أكثر من غبش العينين

أتيت ببعض سلال من ثمر الرمّان وكمثرى

وعبرت طريقا محتدما بالموتِ

رأيت على كرسيّ في طرف البستانِ

قتيلا يأخذ راحته في مضغة ظلّ

ثم يعود ليكمل ميتتهُ

يأخذه الموت إلى حجرات طافحة بالضوءِ

الموت قرصان يدجّن موجة ويسوقها للساحل العدميّ، جوع متاهة للعابرين إلى نهايتهم فرادى دون أكفان كديدان التراب، الأرض أسئلة، فراغ لولبيّ، جثّة تهوي إلى ما لست أعلم.. غيمة، وشموس بكتيريا تشعّ على كعوب أثقلتها الغنغرينة، قلت: أحملني وأمضي أم أكون كطفلة أعطت براءتها لذئب السنّ، ينهشها ويترك نابه في حمرة الخدين؟ ها هي ذي تقوّس ظهرها وتكلّست أطرافها تلك الطريّةُ..

تخذلني أعمدة النور

شبابيك الشرفات … اللهجة تخذلني

يخذلني الرسمُ

ويخذلني الخطّ الكوفيّ الصلب كعظم أهمله ضبع شبعان

تخذلني الأقلامُ

“ابن البوّاب” يدوّر ذيل الواو ويعقفه فيصير كمعلاق حجريّ

يغرزه ما بين الكلمة والأخرى

ويجرّ الجملة هادئة للسلخ على أوضام الفهمِ

ويخذلني وطن يتناسج في أشباح حكايات تتوارثها الجدّاتُ

ويخذلني وجهي المتهالك في المرآة

الخطوة تخذلني

سأعود.. ولن أحتاج لأكثر من كفن

لأكون أنا

 

ياسين بوذراع نوري – قسنطينة-