في سياق تعزيز الحوار حول التفاعل بين السيادة الوطنية والالتزامات الدولية، نظمت وزارة العلاقات مع البرلمان يوما دراسيا بعنوان “التشريعات الوطنية بأبعاد دولية”، احتضنته المدرسة الوطنية العليا للإدارة، بحضور عدد من الوزراء، ممثلي الهيئات الدستورية، وخبراء في القانون والعلاقات الدولية. وقد شكل اللقاء فضاء لتبادل الرؤى حول سبل تحديث المنظومة القانونية الوطنية بما يراعي الثوابت الدستورية ويتماشى مع التطورات والمعايير الدولية. وفي كلمتها الافتتاحية، شددت وزيرة العلاقات مع البرلمان، كوثر كريكو، على أن التشريع الوطني هو تعبير عن السيادة، ويعكس في الآن ذاته التزام الجزائر بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية. في مداخلتها الافتتاحية، أكدت كريكو على أن الجزائر تملك منظومة تشريعية راسخة تستمد شرعيتها من بيان أول نوفمبر، وتشكل مرجعية ثورية ألهمت العالم في مسارات التحرر من الاستعمار.

وأشادت الوزيرة بمهنية الجيش الوطني الشعبي ويقظة الشعب في حماية السيادة الوطنية. وأضافت أن المسار التشريعي في الجزائر شهد زخما كبيرا في ظل قيادة رئيس الجمهورية، حيث تم سن أكثر من 72 قانونا خلال العهدة التشريعية التاسعة، ما يعكس انسجام السلطات التنفيذية والتشريعية في التكيف مع المستجدات الوطنية والدولية. وأبرزت الوزيرة، أن القوانين الجزائرية لا تبنى فقط على خصوصيات المجتمع، بل تأخذ بعين الاعتبار الالتزامات الدولية التي تفرضها المعاهدات والاتفاقيات، مما يجعل من التجربة الجزائرية نموذجا يحتذى في مجال التوفيق بين السيادة والانفتاح.
وزير الاتصال: حريات الإعلام في الجزائر مؤطرة بالقانون وتحترم المواثيق الدولية

من جانبه، شدد وزير الاتصال، محمد مزيان، على أن التشريع المنظم لقطاع الإعلام يكتسي أهمية بالغة باعتباره من التشريعات المرتبطة مباشرة بالحريات الأساسية، وعلى رأسها حرية التعبير والصحافة. وأكد مزيان، أن الجزائر سجلت تقدما نوعيا في مجال حرية الصحافة، حيث ارتقت إلى المرتبة الأولى عربيا وفي شمال إفريقيا، وفق تقارير دولية مستقلة، رغم صدورها عن جهات كثيرا ما كانت متحاملة على الجزائر. وأشار الوزير، إلى أن القانون العضوي المنظم للنشاط الإعلامي يستند إلى الدستور وإلى الاتفاقيات الدولية المصادق عليها، بما فيها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، كما شدد على أن هذه الحريات تمارس ضمن ضوابط قانونية تراعي حفظ النظام العام، الأخلاق، والأمن القومي. ودعا الوزير الصحفيين وطلبة الإعلام إلى التمسك بمبدأ المسؤولية المهنية والاجتماعية، محذرا من مخاطر المحتوى المغلوط المنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والذي وصفه بأنه أداة لبث القيم المعادية للمجتمع، مشددا على أن التحدي الأكبر اليوم هو الحفاظ على مصداقية المعلومة ضمن الإطار القانوني.
سفيان شايب: التشريع الوطني يولي الجالية بالخارج اهتماما خاصا

بدوره، أبرز كاتب الدولة لدى وزير الشؤون الخارجية المكلف بالجالية الوطنية بالخارج، سفيان شايب، أن أهمية اليوم الدراسي تكمن في كونه يسلط الضوء على التفاعل بين البعد الوطني والدولي في التشريعات. وأشار شايب، إلى أن العولمة جعلت من القوانين الوطنية أدوات تتجاوز آثارها الحدود الداخلية، مما يفرض ضرورة مواءمتها مع المعايير الدولية. وأضاف أن وزارة الشؤون الخارجية تضطلع بدور جوهري في ضمان احترام الجزائر لالتزاماتها الدولية، لاسيما من خلال الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية والمتعددة الأطراف. وفي ما يخص الجالية الوطنية بالخارج، أوضح المسؤول أن هذه الفئة تعتبر امتدادا للهوية الوطنية، وتحظى بعناية خاصة من خلال تمكينها من التمثيل السياسي والدستوري، وتسهيل معاملاتها القنصلية. وأكد أن مصالح وزارة الخارجية تعمل باستمرار على تطوير المنظومة القانونية ذات الصلة بالجالية من أجل تعزيز حقوقها وحمايتها، بما ينسجم مع تطلعاتها وواقع بلدان الإقامة.
فريد وحيد دحمان: الاتفاقيات الدولية.. من الهامش إلى مركز التشريع الوطني
قدم السيد فريد وحيد دحمان، مدير الشؤون القانونية بوزارة الشؤون الخارجية، مداخلة بعنوان “الالتزامات الدولية للجزائر المنبثقة عن الاتفاقيات الدولية وعلاقتها بالتشريع الوطني”، استعرض من خلالها المسار الدستوري والقانوني الذي جعل من الاتفاقيات الدولية أحد أركان المنظومة التشريعية الجزائرية. وأوضح دحمان، أن الاتفاقيات الدولية، التي كانت تصنف تقليديا ضمن المجال الخارجي للدولة، أصبحت اليوم تتقاطع مباشرة مع قضايا السيادة، خاصة في ظل الاتفاقيات التي تكرس حقوق الأفراد، على غرار حقوق المرأة. وأشار إلى أن هذا التحول تجسد دستوريا منذ سبعينيات القرن الماضي، وتكرس بوضوح في دستور 2020 الذي أقر سمو المعاهدات الدولية المصادق عليها على القوانين الوطنية. وفي تفسيره للعلاقة بين الاتفاقيات الدولية والدستور، أوضح المتحدث أن هذه الأخيرة لا تسمو على الدستور لكنها ترتقي فوق القوانين العادية بمجرد المصادقة عليها، ما يستدعي تحقيق مواءمة دقيقة بين النصوص الثلاثة: الدستور، الاتفاقيات والتشريعات. كما تطرق إلى مفهوم الاتفاقيات الدولية كما حددته اتفاقية فيينا، موضحا أن العبرة لا تكمن في التسمية بل في مضمونها والإرادة القانونية التي تنتج عنها التزامات دولية. وميز بين نوعين رئيسيين من الاتفاقيات: تلك التي تتطلب مصادقة داخلية لتدخل حيز التنفيذ، وهي التي تسمو على القانون، وأخرى مبسطة تسري دون مصادقة ولا تقدم على القانون الوطني. وأكد على الدور المحوري لوزارة الشؤون الخارجية في مسار الاتفاقيات من التفاوض إلى المصادقة، داعيا إلى توحيد الممارسات التشريعية بما يحقق الانسجام بين الالتزامات الدولية والمنظومة القانونية الوطنية.
عبد الكريم جادي: السيادة والمواءمة.. رهان الدولة الحديثة

من جهته، ركز السيد عبد الكريم جادي، المدير العام للمدرسة العليا للقضاء، في مداخلته بعنوان “تأثير الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية… بين الالتزام والسيادة”، على التحدي المزدوج الذي تواجهه الدول، والمتمثل في ضرورة المواءمة بين التزاماتها الدولية وتشريعاتها الداخلية دون المساس بجوهر السيادة الوطنية. وأوضح جادي، أن المواءمة ليست فعلا تقنيا فحسب، بل هي فعل سيادي مدروس يأخذ أشكالا متعددة، كالتبني والمطابقة والانسجام، وأدناها عدم التعارض. وأبرز أن الجزائر، في سياق عولمة القانون والمعايير، تسعى لخلق بيئة قانونية ملائمة لجذب الاستثمار وتحقيق الحوكمة، مما يفرض مواءمة تشريعية دقيقة مع الالتزامات الدولية. وعرض جادي نماذج ملموسة لهذه المواءمة، من بينها الاتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان، واتفاقية فيينا للمخدرات لسنة 1988، واتفاقية مكافحة الجريمة المنظمة، فضلا عن قانون مكافحة الفساد الذي أرسى لأول مرة مؤسسات وطنية متخصصة. كما أشار إلى جهود الجزائر الجارية لمواءمة تشريعاتها مع اتفاقية مكافحة الجريمة السيبرانية لسنة 2024. واختتم جادي مداخلته، بالتأكيد على أن التجربة الجزائرية تعكس وعيا تدريجيا بأهمية إدماج الالتزامات الدولية في بنية القانون الوطني، بما يعزز الثقة في المنظومة القانونية ويحافظ في الوقت نفسه على مقومات السيادة.
جمال بن سالم: البعد الدولي في العمق الدستوري للتشريع الوطني

أما البروفيسور جمال بن سالم، أستاذ القانون الدستوري، فقد قدم قراءة معمقة بعنوان “البعد الدولي للمنظومة التشريعية الوطنية”، استعرض من خلالها كيف انبثق التوجه نحو الانفتاح على المنظومة الدولية من صلب الوثيقة الدستورية الجزائرية. وأشار بن سالم إلى أن الدستور، من خلال ديباجته والمادتين 153 و154، يعترف صراحة بالاتفاقيات الدولية كمصدر من مصادر التشريع، ويقر بسموها على القانون الوطني. كما أبرز أهمية الربط بين قانون الحريات وقانون الإجراءات، باعتبار أن كل حق دستوري يحتاج إلى آليات قانونية تضمن ممارسته. ولم يغفل المتحدث الجانب الجندري، مشيدا بما أسماه “الدستور الجندري” الذي يعكس التزامات الجزائر الدولية من خلال إدراج حقوق نوعية للمرأة. كما تطرق إلى البعد الاقتصادي في النص الدستوري، لاسيما في المادة 45 التي تكرس حرية الاستثمار، والمادة 34 التي تضمن الأمن القانوني. وفي ما يتعلق بتوزيع الصلاحيات في التشريع والتنظيم، أبرز بن سالم الدور التكاملي بين البرلمان ورئيس الجمهورية والوزير الأول، موضحا أن المحكمة الدستورية تعد الجهة المرجعية للفصل في مدى توافق القوانين مع الاتفاقيات الدولية، تطبيقا للمادة 190 من الدستور. كما شدد على أهمية احترام الفئات الهشة، مثل الأشخاص ذوي الإعاقة، عبر تفعيل الاتفاقيات الدولية ذات الصلة ضمن المنظومة التشريعية، بما يعكس التزام الجزائر بتجسيد البعد الإنساني والحقوقي في قوانينها.
نحو تكريس منظومة قانونية عصرية ذات بعد دولي..

في ختام اليوم الدراسي، أجمع المتدخلون على أن التشريع الوطني لم يعد شأنا داخليا صرفا، بل أصبح ضرورة ترتبط بسمعة الدولة وبتنفيذ التزاماتها الخارجية، دون المساس بثوابتها السيادية. وتم التأكيد على أهمية مواصلة تحديث المنظومة القانونية، بما يواكب تحولات العصر ويخدم مصلحة المواطن والدولة على حد سواء.
محمد بوسلامة




v