-
كلّ قرارٍ مشروع ما دام يصدر عن أصحاب الأرض والتضحية
-
الالتفاف الشعبي ثابت.. والدعم مستمر مهما اختلفت المسارات
جاء ردّ حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن مستقبل غزة، ليؤكد أن القرار يصنعه أصحاب الدم، لا من يكتبون بنود الخريطة من وراء البحار.
ردٌّ حاسم حمل بين سطوره معادلة المقاومة المعهودة: الانفتاح على المبادرات التي توقف نزيف الدماء، دون التنازل عن الثوابت أو القبول بالوصاية. ردّ “حماس” على خطة ترامب بشأن غزة، عكس مقاربة واقعية توازن بين الانفتاح على أي جهد يوقف العدوان ويُخفف المعاناة، وبين التمسك بالثوابت الوطنية ورفض الوصاية الخارجية. فالحركة التي أُنهكت مناطقها تحت نيران الحرب منذ أكتوبر 2023، اختارت أن تتعامل مع المقترح الأمريكي من موقع الميدان، حيث يصاغ القرار استنادا إلى تضحيات المقاومين لا إملاءات العواصم. وقد أبدت حماس استعدادا للتفاعل مع بعض البنود الرئيسة في الخطة، مع التأكيد على أن التنفيذ لا يتمّ إلا وفق “الظروف الميدانية” التي تراها مناسبة، في إشارة إلى أنّ أيّ اتفاق لن يُمرَّر إلا بما يضمن أمن المقاومة وسيادة غزة. في مقدّمة البنود التي أعلنت حماس موافقتها عليها، جاء ملف الأسرى وتبادل الرهائن، إذ أكدت الحركة استعدادها للإفراج عن “جميع أسرى الاحتلال، أحياءً وجثامين”، وفق صيغة التبادل الواردة في خطة ترامب، على أن تُستكمل العملية بمجرد تهيئة الظروف الميدانية. وبذلك، أبقت الحركة الباب مفتوحا أمام المفاوضات عبر الوسطاء، رافضةً الالتزام بجدولٍ زمني محدّد كما ورد في الخطة، التي تشترط إتمام العملية خلال 72 ساعة من إعلان القبول الإسرائيلي. كما نصّت الخطة على إفراج “إسرائيل” عن 250 أسيرًا من المحكومين بالمؤبد، و1700 معتقلٍ من سكان غزة، بمن فيهم النساء والأطفال، إضافةً إلى آلية تبادل للرفات بواقع 15 فلسطينيًا مقابل كل جثمان إسرائيلي، وهو ما لم تُعلّق عليه الحركة تفصيلًا، مكتفيةً بالتأكيد على مبدأ العدالة في التبادل. وفي الشقّ الميداني، أبدت حماس موافقتها على إطارٍ يحقق وقف الحرب والانسحاب الكامل من القطاع، مؤكدةً رفضها لأي وجودٍ أو احتلالٍ إسرائيلي على الأرض. بينما تنصّ خطة ترامب على انسحابٍ تدريجي للقوات الإسرائيلية وفق مراحل، تبدأ بتجميد خطوط القتال تمهيدًا لإطلاق سراح الرهائن. هذا التباين يعكس تمسّك حماس بمطلب الانسحاب الكامل وغير المشروط كشرطٍ أساسيٍّ لوقف إطلاق النار، باعتباره ضمانةً حقيقيةً لإنهاء العدوان، لا مجرد تهدئةٍ مؤقتةٍ تُعيد إنتاج الأزمة. وفي الوقت ذاته، أبدت الحركة ترحيبها بكلّ ما من شأنه إدخال المساعدات الإنسانية وإطلاق عملية إعادة إعمار شاملة، شريطة أن تكون تحت إشرافٍ دوليٍّ محايد، بعيدًا عن أي ترتيباتٍ سياسيةٍ تُكرّس الهيمنة أو تربط المساعدات بالتنازلات. كما حظي ملفّ المساعدات وإعادة الإعمار بحضورٍ بارزٍ في الردّ الفلسطيني، حيث ثمّنت حماس البنود التي تُعزّز تدفّق المساعدات ورفض تهجير السكان، مؤكدةً أن بقاء الفلسطينيين في أرضهم هو خطّ أحمر لا يُمسّ. وبينما تضمّنت خطة ترامب التزامًا بعدم إجبار أيّ فلسطيني على المغادرة مع حرية العودة لاحقًا، شدّدت الحركة على أنّ البقاء في غزة ليس خيارًا، بل حقٌّ أصيلٌ تُدافع عنه كما تدافع عن سلاحها. وفي هذا السياق، يتقاطع الموقفان في الشكل، لكن حماس ترى أن الضمانات الإنسانية يجب أن تُترجم إلى التزاماتٍ سياسيةٍ وقانونيةٍ واضحة، لا مجرد تطميناتٍ ظرفية. أما في القضايا الخلافية، فجاء أبرزها ملف إدارة غزة ودور حماس في المستقبل، حيث تنصّ الخطة الأمريكية على تشكيل إدارةٍ انتقاليةٍ مؤقتةٍ من “التكنوقراط والمستقلين” تحت إشراف “هيئة دولية يرأسها ترامب”، بمشاركة شخصياتٍ دوليةٍ كالسير توني بلير. هذا الطرح اعتبرته حماس مساسًا بالسيادة الوطنية، لتؤكد في ردّها استعدادها لتسليم إدارة القطاع إلى هيئة فلسطينية من المستقلين تُشكَّل بالتوافق الوطني وتحظى بدعمٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ، لا وصايةٍ أجنبية. كما رفضت ضمنيًا البنود التي تُقصيها من مستقبل غزة أو تدعو إلى نزع السلاح، متمسّكةً بأنّ هذه القضايا تُبحث فقط في إطارٍ وطنيٍّ جامعٍ يضمّ جميع القوى والفصائل. بذلك، رسمت الحركة حدود انخراطها في أيّ مبادرةٍ دولية: قبولٌ بالحلول التي تُنهي الحرب، وتحفّظٌ صارمٌ على ما يُقزّم الدور الوطني أو ينتقص من السيادة. ومع هذا التفاعل الحذر مع الخطة الأمريكية، بدا واضحًا أن حماس اختارت أن تُعبّر عن موقفها انطلاقًا من موقعها الميداني لا السياسي، فكلّ بندٍ وافقت عليه أو تحفظت حوله لم يكن استجابةً للضغوط، بل قراءةً واقعيةً لظروف الحرب وتعقيدات المشهد.
كلّ قرارٍ مشروعٌ ما دام يصدر عن أصحاب الأرض والتضحية
وفي ضوء هذا الإدراك العميق لخصوصية اللحظة، تؤكد التجربة الفلسطينية أن الشرعية الحقيقية لأيّ قرارٍ تُقاس بمدى ارتباطه بمن دفع الثمن على الأرض. فالمقاومة، وهي تتعامل مع المبادرات والضغوط الدولية، تنطلق من قاعدةٍ واضحة: أن القرار لا يُمنح، بل يُنتزع ممن صمد وواجه وقدّم الدماء دفاعًا عن الكرامة والسيادة. لذلك، فإن أيّ خيارٍ تتخذه حماس اليوم، سواء بالقبول أو الرفض أو التريّث، يظلّ مشروعًا بقدر ما يصدر عن واقعٍ ميدانيٍّ تعرفه وحدها، لا عن حساباتٍ خارجيةٍ تُراد لها أن تُصاغ باسمها. لقد أثبتت تجارب الحروب المتعاقبة أن الميدان هو المعيار الحقيقي للمشروعية، وأنّ من صمد في وجه الدمار ليس مضطرًا لتبرير قراراته أمام من تابع المشهد من بعيد. فالمقاوم الذي عاش تفاصيل الحصار، ورأى بأمّ عينيه انهيار البيوت فوق ساكنيها، هو الأقدر على فهم ما تقتضيه المرحلة، والأجدر بتحديد اللحظة التي يجب أن يُطلق فيها النار أو تُوقَّع فيها الاتفاقات. فقراراته نتاج معاناةٍ طويلةٍ وتجربةٍ تراكمت على مدار عقدين من المواجهة. وبهذا المعنى، فإنّ كلّ خيارٍ تتخذه المقاومة اليوم هو امتدادٌ لحقٍّ تاريخيٍّ في تقرير المصير، لا استجابةً لضغوطٍ آنية. فالقبول ببعض البنود ليس تراجعًا، بل تعبيرٌ عن وعيٍ سياسيٍّ يُدرك قيمة الزمن والإنسان، والتحفظ على أخرى ليس تشددًا، بل حفاظٌ على جوهر القضية. النقاش حول خيارات المقاومة لا ينبغي أن يُختزل في ثنائية “القبول أو الرفض”، بل يجب أن يُقرأ ضمن معادلةٍ أوسع، ترى في كل قرارٍ جزءًا من استراتيجية الصمود المتدرّج. فالحروب الحديثة لا تُحسم في معركةٍ واحدة، والتهدئة ليست بالضرورة نهاية الصراع، بل مرحلةٌ لإعادة التموقع وإعداد الجولة المقبلة. ولذلك، فإنّ مشروعية القرار لا تستمدّ قوتها من التصفيق الخارجي، بل من ثقة الداخل ومن دماءٍ سالت لتُبقي الكرامة حيّة. ومع كلّ قراءةٍ للمشهد وتباينٍ في التقديرات، يبقى ما لا يختلف عليه أحد أنّ حماس تتحرك في عمق حاضنةٍ شعبيةٍ صلبة تشكّلت عبر سنواتٍ من الصمود والتضحيات. فكلّ قرارٍ تتخذه الحركة، سواء كان باتجاه الهدنة أو التصعيد أو التفاوض، لا ينفصل عن نبض الشارع الفلسطيني، الذي منحها شرعية المقاومة منذ اليوم الأول، واحتضنها في أحلك الظروف. هذا الالتفاف الشعبي، الذي لم تهزّه الحروب ولا حملات التحريض، هو الوقود الحقيقي لصمود غزة، والسند المعنوي الذي يمنح القرار السياسي والميداني قوّته ومصداقيته. ولا يقتصر هذا الالتفاف على الداخل الفلسطيني، بل يمتدّ إلى عمق الأمة العربية والإسلامية التي ترى في غزة جبهة الدفاع الأولى عن الكرامة المشتركة. فكلّ تظاهرةٍ في العواصم، وكلّ حملة تضامنٍ في الشوارع والفضاء الرقمي، هي تجسيدٌ لحقيقة أنّ المقاومة ليست معزولة، وأنّ قضيتها ليست محليةً بل إنسانية.
وراءهم… مهما قرروا
حركة “حماس”، التي واجهت آلة الحرب عامين كاملين، قدّمت موقفًا متزنًا يعكس إدراكها لحجم التحديات وتشعّب المآلات، مؤكدةً أن أيّ قرارٍ تتخذه، سواء بالمضي في التهدئة أو مواصلة الصمود، هو نابعٌ من واقعٍ تعرفه جيدًا وبيئةٍ تدرك تفاصيلها أكثر من أيّ طرفٍ خارجي. فالميدان بالنسبة لها منصة القرار الأولى والأخيرة. ولأنها الجهة التي دفعت الثمن الأكبر، جاءت قراراتها نابعةً من معايشةٍ يوميةٍ للمعاناة، لا من قراءةٍ باردةٍ للتقارير. فحين تفتح أبواب الحوار، تفعل ذلك من موقعٍ قوي، مستندةً إلى توازن ردعٍ صنعته بسنواتٍ من الصمود. وحين تتحفّظ أو ترفض، فذلك انطلاقًا من قناعةٍ بأن بعض الحلول قد تُوقف الحرب مؤقتًا، لكنها تُبقي الاحتلال قائمًا بأشكالٍ جديدة. في كلتا الحالتين، يبقى معيار الحركة واضحًا: المصلحة الوطنية والسيادة الكاملة على القرار. إن الرأي العام العربي والإسلامي، وهو يتابع تفاصيل هذه المرحلة الحرجة، يدرك أن من عاش المعركة هو الأدرى بخياراتها، وأن أيّ قرارٍ يخرج من بين الخنادق وتحت القصف، هو الأكثر صدقًا وتمثيلًا للإرادة الشعبية. ولذلك، فإن الالتفاف الشعبي حول خيار المقاومة، أياً كان شكله، ليس اصطفافًا عاطفيًا، بل إقرارٌ بأن الشرعية الحقيقية تُمنح لمن يُقاتل دفاعًا عن الأرض، لا لمن يوقّع من خلف الحدود. وفي هذا السياق، تبقى الرسالة الجامعة واضحة: وراءهم.. مهما قرروا.