أنوار من جامع الجزائر

وداعا رمضان – الجزء الأول –

وداعا رمضان – الجزء الأول –

ها هو ذا رمضان يحزِم أمتعته ويرتحلُ عبر الزّمنِ ويمضي سريعًا، أيّامًا معدودات، تنطوي فيها أعمالُ العبادِ التي خلَّفوها في أيّامه ولياليه؛ قال تعالى: “اِنَّا نَحْنُ نُحْيِ اِ۬لْمَوْت۪يٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمْۖ وَكُلَّ شَےْءٍ اَحْصَيْنَٰهُ فِےٓ إِمَامٖ مُّبِينٖۖ ” سورة يس:11. فعلام العزمُ بعد رمضانَ؟ وماذا تعلّمنا من مدرسته ودروسه؟ ماذا بعد شهرٍ من الصيام والقيامِ والقرآنِ؟ وما الأثر الذي تركه في نفوسِنا وقلوبنا وأخلاقِنا؟. فأمّا من صام إيمانًا واحتسابًا، فلسوف يستمرُّ على ذلك الامتثالِ والإقبالِ على القرآنِ وعمارة المساجدِ، وعلى الطّاعةِ وسائرِ التّكاليف الشّرعيّةِ، وأمّا من كان صيامه على الجوعِ والعطشِ ــ وأُعيذ نفسي وإيّاكم باللّه أن نكون منهم ــ فلسوف يدخل تحت طائلةِ من عناهم رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلّم بقوله كما في سنن النّسائيّ عن أبي هريرة رضي اللّه عنه: “رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَه مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَه مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ”. وفي صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ”؛ وقال تعالى: “وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا” والمعنى أي لا تكونوا مثلَ المرأةِ الخرقاءِ، التي تعْكِفُ على غزلِ نسيجِها أيّامًا ولياليَ، حتّى إذا اكتمل غزلُها قامت إليه فنكثتْه.

فما مقياس القبولِ ــ أيّها الإخوةُ الصّائمون ــ: إنّ مقياس القبول لهو بمدى الانتفاعِ بهذا الشّهر، وبما ينعكِسُ على حياتنا من أثرِ ذلك الاجتماعِ على تلاوة كتابِ اللّهِ، والضّراعةِ والخشوعِ في محراب العبوديّةِ للّه، هو ما ينعكس على عموم النّاس من أثرِ غشيانٍ المساجدِ وعمارتها بأنواعِ العبادات، وحضورِ مجالس الذّكرِ في سائر أيّامِ رمضانَ، بعدمِ هجرها والعزوفِ عن مجالِسها بعده. هو ما ينعكس على الأسرةِ بأن تظلَّ مجتمعةً، كما كانت في رمضان مجتمعةً على الصيام والقيام ومائدةِ الإفطار، يَرْعَى فيها الوالدانِ أبناءَهُما بالنّصحِ والإرشادِ. هو أيضًا ما ينعكسُ على الصّحافة ووسائلِ التّواصلِ الاجتماعيِّ النّزيهة، التي تعمل على إذاعةْ الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، بأن تستمر بعد رمضان في عملها الجاد الذي دأبت عليه خلال الشهر الكريم، مع مراعاتها حدودِ اللّه فيما يُنشر وما يشاركه النّاس؛ فالكلمة الطّيّبة صدقة، والكلمة الخبيثة شرّ ودمار. وكذا بما ينعكس على الجمعياتِ الخيريّة بمواصلة أعمالِ الخير والتّكافلِ والتّعاونِ على البرّ والتّقوى. هذا هو مقياس القبول، ولا عبرةَ بالعبادةِ والاستقامة الموسميّةِ التي ينقلبُ بعدها الإقبالُ إدبارًا، والاجتماعُ افتراقًا وتباعدًا، والكلمة الطيّبة والموعظة الحسنة غمزًا ولمزًا وزورًا وبهتانًا، وعمارةُ المساجدِ والأوقاتِ بالذّكرِ والدّعاءِ إلى لغوٍ وخواءٍ وغفلةٍ.

 

 

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر