فيلم “وانتصرنا” يوثق الدور الحاسم للجزائر في حرب أكتوبر 1973

بالمال والسلاح والرجال.. مكالمة الفجر بين بومدين والسادات تفتح صفحة جديدة في التضامن العربي

بالمال والسلاح والرجال.. مكالمة الفجر بين بومدين والسادات تفتح صفحة جديدة في التضامن العربي

  • من موسكو إلى الجبهة.. الجزائر تحوّل الدعم السياسي إلى مشاركة ميدانية فعّالة

  • شهادات مصرية توثّق حضور الجزائر في النصر وتخلّد اسم بومدين في ذاكرة أكتوبر

وثّق فيلم “وانتصرنا” الذي أنتجته وزارة الدفاع المصرية الدور المحوري الذي لعبته الجزائر بقيادة الرئيس الراحل هواري بومدين في حرب أكتوبر 1973، من خلال شهادة كاميليا السادات ابنة الرئيس المصري الراحل أنور السادات التي كشفت تفاصيل مكالمة تاريخية بين الزعيمين، جسّدت في دقائق معدودة معنى التضامن العربي الحقيقي.

من موسكو إلى القاهرة، ومن البنك المركزي الجزائري إلى جبهة القتال، كانت الجزائر تقاتل بطريقتها، بالمال والسلاح والرجال، لتُسهم في صناعة نصر كان عربيا جامعا. في صباح هادئ من أيام أكتوبر 1973، وبينما كانت القاهرة تستعد ليوم عادي لم يكن أحد يتوقع أنه سيغيّر مجرى التاريخ، دخل أحد الضباط إلى غرفة الرئيس المصري الراحل أنور السادات وهو يحمل في يده هاتفا أحمر اللون، قائلا له بلهجة متوترة: “سيادة الرئيس، الرئيس بومدين على الخط… يريدك فورا”. كانت الساعة تشير إلى السادسة صباحا، والدهشة ارتسمت على وجه السادات وهو يسمع أن المتصل يتحدث من موسكو، لا من الجزائر. في تلك اللحظة، بدأت حكاية فصل جديد من فصول التضامن العربي، حيث تلاقت الإرادة في لحظة صدق نادرة، بين رجلين أدركا أن المعركة القادمة معركة كل العرب. على الطرف الآخر من الهاتف، كان هواري بومدين يتحدث بثقة القائد وبحرارة الموقف، قائلا للسادات: “فتحتُ البنوك الجزائرية بالأمس، البنك المركزي وكل البنوك الوطنية، وجمعتُ مئة مليون دولار وضعتها في الطائرة، وأنا الآن في موسكو لأشرف على شحن الأسلحة بنفسي”. كانت الكلمات بسيطة، لكنها كفيلة بإيقاظ في السادات شعورا غامرا بالامتنان والفخر. كان بومدين يتحرك بسرعة ودون استشارة أحد، مؤمنا بأن الواجب العربي لا يحتاج إلى اجتماعات ولا إلى ضوء أخضر من أحد. لقد كان يعرف أن الوقت أثمن من أي بروتوكول، وأن كل دقيقة تُهدر تعني مزيدا من الأرواح على الجبهة. تروي كريمة السادات، التي شهدت تفاصيل تلك اللحظة من منزل والدها، أن والدها ظلّ بعد انتهاء المكالمة في صمت طويل، وكأنه يستحضر حجم ما قاله الرئيس الجزائري. لم يكن يتحدث عن تبرع مالي أو عن إرسال طائرة دعم، وإنما عن خطة متكاملة تضمن تدفق السلاح إلى الجيش المصري في الوقت المناسب. في تلك اللحظة، أدرك السادات أن الجزائر دخلت الحرب قبل أن تبدأ رسميا، وأن بومدين قد حوّل الخطاب العربي إلى فعل ملموس. مكالمة الفجر كانت إيذانا ببدء مرحلة من التنسيق العربي غير المسبوق. فبينما كانت مصر تخطّط لعبور قناة السويس، كانت الجزائر تفتح قنوات الدعم المالي والعسكري والسياسي دون تردد. ومن تلك المكالمة، وُلدت حكاية امتدت من موسكو إلى السويس، ومن البنك المركزي الجزائري إلى ميدان الشرف، حيث أصبح صوت بومدين في الهاتف جزءا من ذاكرة النصر نفسها، وواحدا من أهم الأصوات التي غيّرت مجرى الحرب وأعادت للكرامة العربية نبضها الحقيقي.

 

من موسكو إلى الجبهة.. دعم تجاوز المال

وجود هواري بومدين في موسكو كان خطوة مدروسة تعبّر عن وعي استراتيجي نادر في زمن الأزمات. فقد أدرك الرئيس الجزائري أن الحرب تكسب بميزان القوة الفعلية على الأرض، وأن تفوّق السلاح هو الذي يحسم المعركة قبل أن تطلق أول طلقة. لذلك، ما إن علم برفض الاتحاد السوفياتي تزويد مصر بالمعدات الثقيلة المطلوبة، حتى قرر التحرك بنفسه إلى موسكو، ليكون صوته في المفاوضات أقوى من أي رسالة دبلوماسية. هناك، جلس بومدين أمام القادة السوفيات ليخبرهم أن “الجزائر لا تطلب، بل تدفع”. حين بدأ الروس في الحديث عن الأسعار وشروط الدفع، لم يتردّد بومدين في إخراج دفتر الشيكات من جيبه، وكتب شيكا على بياض قائلا: “اكتبوا المبلغ الذي تريدونه”. ما إن انتهت المفاوضات، حتى بدأت الطائرات والسفن تنقل المعدات العسكرية نحو ميناء الإسكندرية بسرعة غير مسبوقة. كان بومدين يُشرف على عملية الشحن بنفسه، يتابع التفاصيل الصغيرة كما لو أنه قائد ميداني في الجبهة. يروي بعض المقربين منه أنه لم يغادر موسكو إلا بعد أن تأكد أن آخر مركب قد غادر الميناء، وأن كل قطعة سلاح أصبحت في طريقها إلى مصر وسوريا. وبينما كانت الجزائر ترسل الأسلحة، كانت في الوقت ذاته تعدّ لإرسال الرجال. فالدعم الذي بدأ في موسكو بالمال انتهى في الجبهة بالفعل الميداني، ليشكّل امتدادا طبيعيا للقرار السياسي الشجاع. لقد تجاوز بومدين فكرة “الدعم العربي التقليدي” ليحوّل الجزائر إلى قاعدة خلفية حقيقية للحرب، توفر التمويل، وتؤمن السلاح، وتجهّز القوات. وهكذا، أصبحت موسكو محطة انطلاق لمشروع عربي موحّد.

 

الفوج الثامن.. جنود الجزائر في الميدان

وحين دوّت صفارات الحرب يوم السادس من أكتوبر 1973، كانت الجزائر جزءا من الحدث. فمع الساعات الأولى للمعركة، بدأت طلائع “الفوج الثامن للمشاة الميكانيكية” الجزائري في التحرك نحو الجبهة المصرية، حاملة معها دبابات ومدافع وأسلحة ثقيلة. كان ذلك الفوج يضم أكثر من ثلاثة آلاف جندي وضابط، جاؤوا من مختلف ولايات الجزائر، وقد تدرّبوا خصيصا على القتال في ظروف مشابهة لتضاريس سيناء. وفي خضم المعارك الطاحنة، أثبت الفوج الثامن كفاءة عالية في التعامل مع التضاريس الصعبة وسرعة الانتشار، وكان أداؤه الميداني نموذجا يحتذى في الانضباط والتنسيق مع القوات المصرية. ولم تقتصر مساهمة الجزائر على الجبهة فقط، بل أرسلت أسراب طائرات شاركت في طلعات قتالية هجومية، لتبرهن أن الجزائر دخلت الحرب بكل مؤسساتها وقدراتها.

 

السادات يشهد.. بومدين من أرجَل الرجال

بعد أن وضعت حرب أكتوبر أوزارها، بدأ العالم يتحدث عن الانتصار العربي الذي أعاد التوازن للمنطقة، لكن القليلين كانوا يعرفون حجم الأدوار الخفية التي ساهمت في صنع ذلك النصر. كان الرئيس المصري الراحل أنور السادات من بين الذين لم يترددوا في الاعتراف بالفضل، إذ قال في أكثر من مناسبة إن “جزءا كبيرا من الفضل في النصر – بعد الله عز وجل – يعود إلى رجلين اثنين: الملك فيصل بن عبد العزيز، والرئيس هواري بومدين”. كلماته كانت شهادة من قائد خاض الحرب وعرف مَن وقف معه في اللحظة التي كان فيها العالم كله يترقب سقوط مصر. كانت كلمات السادات شهادة للتاريخ تؤكد أن الجزائر جسدت التضامن العربي بأبهى صوره ولم تكن تكتفي بالخطاب السياسي العقيم. أما الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان الجيش المصري وقت الحرب، فقد ذهب أبعد من ذلك حين كتب في مذكراته أن “الجزائر لم تكتف بالمشاركة الرمزية، بل عاشت الحرب بكل جوارحها، وكأنها تخوضها فعلا في الميدان”. وأضاف أن بومدين كان يتابع المعارك أولا بأول، ويتلقى التقارير من القاهرة ودمشق، مؤكدا استعداده لتقديم المزيد من الدعم في أي لحظة. ولعل أكثر ما ميّز موقف بومدين هو أنه لم يسع يوما إلى استثمار هذا الدور سياسيا أو إعلاميا، بل ترك الأفعال تتحدث عنه. لم يُرسل الوفود لتعلن ما قدّمته الجزائر، ولم يطالب بأي مقابل أو إشادة، لأن ما فعله كان في نظره واجبا لا منّة فيه. هذا التجرّد من الحسابات والمصالح هو ما جعل صورته تبقى في ذاكرة المصريين والعرب، رمزا للصدق والالتزام، ولأن القيادة عنده لم تكن بحثا عن مجد شخصي، بل عن كرامة جماعية للأمة. وهكذا، ظل اسم بومدين في ذاكرة أكتوبر كأحد أبطال النصر الذين آمنوا أن العروبة موقف قبل أن تكون خطابا.

 

الذاكرة المشتركة.. من التاريخ إلى الوجدان

بعد مرور أكثر من خمسة عقود على حرب أكتوبر، لا يزال اسم هواري بومدين يسطع في الذاكرة المصرية والعربية، كزعيم ورمز للوفاء والشهامة. وقد جاء الفيلم الوثائقي “وانتصرنا” ليعيد إلى الواجهة تلك اللحظات التي كادت تُطوى مع الزمن، مؤكّدا أن التاريخ لا يُزوَّر، وأن الشعوب التي تحفظ ذاكرة مواقفها هي وحدها القادرة على كتابة مستقبلها بثقة. لقد أعاد الوثائقي إلى الوعي العربي مشهد التضامن النادر بين القاهرة والجزائر، حين تلاقت الإرادتان على هدف واحد: أن تبقى الكرامة العربية عصيّة على الانكسار. في مصر، لا تزال شهادات الجنود والضباط تتحدث بإجلال عن “الأشقاء الجزائريين” الذين جاؤوا للقتال دون ضجيج، حاملين معهم عبق ثورة المليون ونصف المليون شهيد. وفي الجزائر، يردّد الجيل الجديد بفخر أن بلاده كانت “جزءا من النصر”، وأن ما قدّمه بومدين كان دعما لمصر واستمرارا لرسالة التحرر التي قامت عليها الدولة الجزائرية الحديثة.