سمر إبرهيم صبيح.. أيقونة نضال ورمز كفاح المرأة الفلسطينية، ولدت سمر صبيح، بمخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين، ودرست بمدارسه جميع مراحل الدراسة العامة حتى التحقت بالجامعة الإسلامية تخصص دراسات إسلامية، انتقلت بعدها سمر إلى الضفة الغربية لتبدأ حياة زوجية حلمت بأن تكون سعيدة، لكن جيش الاحتلال لم يهنأ له ذلك، فاعتقلها في مدينة طولكرم وهي حامل في شهرها الأول بعد محاصرة بيتها بـ”الجيبات” والكلاب البوليسية على حينِ غرة. لم تكن تجربة سمر مع المعتقلات الصهيونية كغيرها من الأسيرات، فقد كانت حاملا بطفلها الأول الذي شاء القدر أن يولد داخل الأسر لتلقب والدته بوالدة أصغر أسير في المعتقلات الصهيونية، عن كل هذه الذكريات والآلام الممزوجة بالآمال تحدثت، سمر صبيح، مع جريدة “الموعد اليومي” التي التقتها على هامش الاحتفائية التي نشطتها حركة مجتمع السلم “حمس” بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، والذي خصصته للمرأة المناضلة والمرأة الفلسطينية نموذجا.
لا شك أن يوم اعتقالك كان مفصلا حاسما في مسار حياتك، كيف كان ذلك اليوم وهل كنت تتوقعين أسرك؟

في عام 2005، طوّق جيش الاحتلال الصهيونية منزلي من الجهات الأربع، وعجت باحة البيت بالجنود، فلم أكن أعرف أنهم قادمون لاعتقالي إلا حين صوبوا كشافاتهم نحو غرفتي بالتحديد، وأخذوا ينادون عبر مكبراتهم بالإخلاء فورًا، وخلال 7 دقائق فقط اقتحموا بيتي بشكل وحشي ودخلوا إلى غرفتي مباشرةً وصادروا الأوراق والصور والهواتف، وأخرجوا الجميع إلى باحة البيت، ثم اقتادوني إلى داخل بيتٍ خشبي بعيد عن منزلي، وضعوني للاستجواب الأوليّ وطلبوا مني التفتيش بشكل عارِ أمامهم، مصوبين أسلحتهم في وجهي، فرفضت قائلةً: “لو قتلتموني مش هتفتش عارية، معكم مجندات همّا يفتشوني”. وصممت على موقفي إلى أن خضع الاحتلال لي، ثم ألبسوني “أبرهول الاعتقال”، وهو اللباس الذي يرتديه الأسير لنقله إلى التحقيق. وأثناء التحقيق العسكري أمام بيتي، أخبرتهم بحملي، محملةً إياهم مسؤولية أي مكروه قد يُصيبني وجنيني، لكنهم لم يُعيروا كلامي اهتمامًا وقيدوا يدي وقدمي “بالكلبشات”، وعصبوا عيني ووضعوني داخل “الجيب العسكري”. وأذكر أن المجندة الصهيونية كانت تمسك بيدي، وصوت الكلب يلهو بالأصفاد الحديدية بفمه، لم أكن أرَ لكنني سمعت كل شيء، في ما لم أكن أعرف إلى أين يأخذونني، وعندما فتحت عيني، وجدت نفسي في معسكر للجيش الصهيونية وهناك حققوا معي لنصف ساعة”.
ومباشرة، من التحقيق إلى مستشفى هداسا-عين كارم في مدينة القدس، أخضعوني للتصوير بجهاز الموجات فوق الصوتية، وتأكدوا من حملي، ثم نقلوني إلى تحقيق المسكوبية وهو أصعب أنواع التحقيقات، لأنه يتمتع بمركزية الشاباك الصهيوني الذي يتفنن بكل أنواع التعذيب، فبداخل غرفة التحقيق كرسي مثبت بالأرض يكاد يصلها لقِصر طوله يسمى “كرسي الشبح”. قُيدت يداي وقدماي خلفه ولم أستطيع الحركة، وبقيت على هذا الحال ما يزيد عن عشر ساعات متواصلة، يجلس المحقق أمامي على الطاولة، وهدودني بقتلي أهلي، أو التحرش الجنسي، أو هدم منزلي، وهكذا يتغير المحقق كل نصف ساعة ولا يتغير الأسلوب”. وأثناء التحقيق يُعزل الأسير عن العالم الخارجي، ويُمنع من رؤية المحامي، وزيارات الأهل، وحتى الصليب الأحمر، وهذا كله للضغط علي نفسيته وجبره على الاعتراف بأشياء لم يرتكبها، فماذا يفعل الاحتلال حين يفشل في نزع الاعتراف؟ يضعه لمدة طويلة في سجن العصافير “العملاء” لأنه يكون منهكًا من التحقيقات وبحاجة للفضفضة، فيبوح بأشياء لم يقلها من قبل، وهذا أصعب ما يتعرض له الأسير، ثم يُنقل بعدها كل حسب جنسه، فإلى سجن الدامون للأسرى الذكور، وإلى سجن هاشرون للأسيرات الإناث.
ماهي التهم التي كانت موجهة لك؟

سُطِرت قائمة التهم التي وجهت لي بـ31 بندًا، حيث اتهمت بتنفيذ أعمال طلابية في الجامعة الإسلامية بقطاع غزة، وادّعى الاحتلال أن سبب مجيئي للضفة الغربية لأعمال مقاومة، وهناك حكم عليا بالسجن المؤبد ثم 30 عامًا، ثم خضعت ولم أكن أبلغ من العمر 25 عامًا حينها، إلى (16) محاكمة عسكرية في عوفر خلال عامٍ كامل، ولم أعترف بكل التهم الموجهة إلي، فاضطروا إلى تخفيف الحكم إلى سنتين وثمانية أشهر.
بالعودة إلى سنوات الأسر، ماذا بقي في ذاكرتك منها؟

ذكريات الأسر لا تنسى، وأذكر جيدا كيف كانت الزنزانة تحت الأرض بطابقين وأذكر أنني نزلت أدراج كثيرة، ولا يوجد أي منفذ للهواء أو الشمس، ولا نافذة يُعرف منها النهار أو الليل، فسوؤها يفوق التوقع بكثير، بداخلها حفرة بالأرض لقضاء الحاجة تخرج منها الفئران والصراصير، وفرشة رقيقة جدًا كي لا ينعم الأسير بنومه أبدًا، وكلما غفي لربع ساعة يستيقظ على وقع صراخ وطرق السجان بالزنزانة متعمدًا. وهل تصدقون أنني كنت أعرف مواعيد الصلاة بإلهامٍ رباني، نعم فقد دخلت السجن في تاريخ 29/5/2005، في الثالثة فجرًا، وحسبت بعد ساعة من دخولي السجن سيأذن الفجر وبعد 6 ساعات يكون الظهر، وهكذا بقيت أحسب لمدة 66 يوما تحت الأرض لم أخرج منها سوى للتحقيق، ناهيك أن ما يقدمونه من طعام مُقرِف للغاية يتعمدون وضع الصراصير عليه حتى يشمئز الأسير، فلا يتناوله وتضعف بنيته، وهذا ما حدث معي، فبدلًا من أن يزداد وزني خلال الحمل نزل بشكلٍ حاد من 70 إلى 45 كيلو غرامًا”. ولم يشفع لي كوني “حاملًا”، فقد تنقلت وجنيني بين المحاكم الصهيونية مغمضة العينين ومقيدة اليدين، وأجلس داخل سيارتهم على كرسي حديدي، شبابيكها مغلقة كي لا أرى العالم الخارجي، ويتعمد السائق الصهيوني القيادة بشكل همجي حتى أطرَح أرضًا وأفقد جنيني، كما حُرِمت من مكالمة هاتفية مع والدتي، فلا طعام جيد يتغذى جنيني عليه، ولا طبيب أزوره. وفي الشهر السادس من الحمل لم أعد أشعر بحركة الجنين، أدركت أن نبضه قد توقف، فطلبت من إدارة السجن زيارة الطبيب فورًا، لكنهم لم يستجيبوا حتى أصررت على طلبي للمرة السادسة”. وبالفعل، كان نبض الجنين ضعيفًا جدًا، حيث لم أتلقَ الطعام الجيد ولا فيتامين الحديد، فرغم تهافت الأسيرات على تقديم كل ما يصلهن من فاكهة مرة واحدة أسبوعيًا لكنني لم أتجاوز مرحلة الخطر، فطالبن إدارة السجون بدخول أقراص فيتامين الحديد، حيث هددن بالإضراب عن الطعام في حال لم تتم الاستجابة لطلبهن، وهنا رضخت الإدارة ونجوت وجنيني أخيرًا. وكنت أتقلب على الجمر خوفًا وقلقًا مع اقتراب موعد الولادة، حيث لم أخضع للفحص الطبي إلا لمرة واحدة. ولما حان وقت الولادة، أخبرت، الممثلة عن الأسيرات آنذاك، أحلام التميمي مصلحة السجون، بموعد خضوعي لعملية ولادة قيصرية نتيجة عدم تهيئ الجنين للولادة الطبيعية بسبب ضعف قدرتي على الحركة داخل المعتقل.
بعد معاناة فترة الحمل، كيف كانت الولادة هناك؟

تجربة الولادة داخل السجون الصهيونية تجربة قاسية جدا، وقبل وضعي لمولودي، تقدّمت بطلب لإدارة مصلحة السجون، بإعطائي فرصة لوضع المولود في ظروف إنسانية بحسب اتفاقية جنيف الرابعة، التي تنصّ على احترام الأسرى، لكنها قوبلت بالرفض الصهيوني. وهكذا مررت بظروف ولادة “قاسية جدا”، كونها أول ولادة أعيشها كسيدة، وجدت نفسي فيها بعيدة عن جميع أفراد عائلتي، وداخل السجن توجّهت من السجن إلى غرفة العمليات، وأنا مكبّلة، وضعت مولودي “براء”، بعملية قيصرية، وأنا على سرير مستشفى صهيوني، مكبّلة الأيدي والأرجل، بقيود حديدية. وكانت الحراسة الأمنية مشددة جدا، رغم أنني كنت مكبّلة، وضعيفة، والظروف كانت قاسية جدا، وخرج براء إلى هذه الدنيا، ودخل معي إلى السجون وقضى فيها عامين إثنين.
هل تلقى براء معاملة خاصة وهل أثّر السجن على نفسيته؟

عاملت إدارة مصلحة السجون الطفل براء، كأي أسيرة أو أسير يقضي حكما بالسجن، دون أي معاملة استثنائية إنسانية خاصة، كما مُنع من “التعرّض للهواء والشمس، وقد التقطت الكاميرات آنذاك أول لحظات الإفراج عني وعن طفلي الذي كان خائفا من الحياة خارج السجن، والتي يراها للمرة الأولى، وبدأ بالصراخ باكيا، واحتجت لفترة من الوقت، كي أعدت تأهيل طلفي ودمجه في المجتمع، بعد عامين قضاهما خلف قضبان السجون الصهيونية.
من أين تستمد المرأة الفلسطينية قوتها؟
المرأة الفلسطينية تسطر أفضل البطولات في قطاع غزة ضد الكيان المحتل، واستمرار الاحتلال في عدوانه التعسفي لن يزيد المرأة الفلسطينية إلا صمودا ومقاومة حتى النصر، وكما يقول صاحب الكوفية نحن قناعتنا وعقيدتنا أنه جهاد فنصر أواستشهاد، ولهذا فنحن أرواحنا وأبناؤنا وأحباؤنا فدى الله ثم القدس والمقاومة.
هل تجدين وجها للتشابه بين المرأتين الجزائرية والفلسطينية؟

المرأة الجزائرية كانت دائما ملهمة النساء والمناضلات بكفاحها ونضالها وجهادها في سبيل استقلال بلادها، كما كانت المرأة الجزائرية دائما السند والداعم للمرأة الفلسطينية، وأدعو كل جزائرية للاعتزاز بكونها جزءا لا يتجزأ من بلد المليون ونصف المليون شهيد، وأشكر الجميع هنا في بلدي الثاني الجزائر على احتضانهم لنا ولقضيتنا العادلة.
التقتها: لمياء بن دعاس










