وأذن في الناس بالحج

وأذن في الناس بالحج

 

أذن مؤذن بالحج بأمر الله، تعالت حكمته، وعظمت منته، فنادى محمد صلى الله عليه وسلم، منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا ونصف قرن: “أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا” بل إن الحج إلى بيت الله الحرام يوغل في القدم أحقابا بعيدة في أعماق التاريخ؛ فمن يوم أن دعا إبراهيم ربه ضارعا: ” رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ” إبراهيم: 37. وإذا كان العرب قد حجوا إلى بيت الله العتيق في جاهليتهم، فالإسلام قد شدد في طلبه، حتى اعتبره من الجهاد، بل اعتبره أفضل الجهاد؛ فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روت عائشة رضي الله عنها: “أفضل الجهاد حج مبرور” واعتبره نسك الإسلام الأكبر؛ فقد جعل الله سبحانه وتعالى لكل أمة نسكا، وجعل الحج نسك الإسلام: ” وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ” الحج: 34. ولقد استمر الناس على القيام بحق هذا النسك العظيم، ينفرون إليه خفافا وثقالا، ورجالا وركبانا، تمخر بهم السفن في عباب البحار، ويطوون الأرض طيا شوقا إلى ربهم، وتلبية لندائه، حتى تعج بهم الأرض المقدسة؛ وبيت الله، والمشعر الحرام.

ولماذا قدس الله البيت الحرام، وجعل الحج إليه من شعائره، والإسلام لا يقدس الأماكن ولا الأحجار، بل يجعل العبادة لله وحده الخالق لكل شيء، بديع السموات والأرض؟ وإن الجواب عن هذا السؤال هو بيان الحكمة في شريعة الحج؛ ما كان البيت مقدسا، ولا كانت عرفات مقدسة، لترابها، وأحجارها، ومدرها؛ إنما كان التقديس لما تحويه من ذكريات، هي آيات الله سبحانه في نبواته؛ فالذي بناه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى عليه الحنفية السمحة، وهي الشريعة الخالدة الجامعة إلى يوم القيامة؛ ولقد كانت هي الإسلام كما قال سبحانه وتعالى: ” مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ” آل عمران: 67. فإذا كان ذلك البيت مثابة للناس وأمنا، وحرما مقدسا يأتي إليه الناس من كل فج عميق، فذلك لأنه أقدم مكان معروف، كان لعبادة الله سبحانه وتعالى الخالصة، ” وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ” البقرة: 127، 128. ولقد شرف الله البيت العتيق تشريفا ثانيا، فنشأ في رحابه خاتم النبيين، محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه كان المشهد الأول للدعوة المحمدية؛ ففي رباع مكة كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش، وحولها كان يتحنث، ويتأمل إرهاصا للبعث؛ ثم فيه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الروح الأمين، وفيه صدع بأمر ربه، وأنذر عشيرته الأقربين، وفيه صابر المشركين وجالد ودعا بالموعظة الحسنة. وليس الحج فقط لهذه الذكريات المقدسة، ولكن ” لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ ” الحج: 28؛ فالحج نسك يشتمل على أمرين: أحدهما المنافع التي يجنيها المسلمون منه، ويشاهدونها؛ والثاني الذكر لله سبحانه على ما رزقهم، وإن المتتبع الفاحص الدارس لمناسك الحج في جملتها وتفصيلها، يشهد هذه المنافع، ويشهد ذلك الذكر المقدس لله سبحانه وتعالى. وفي ذلك الاجتماع المقدس يلتقي الشرقي والغربي، والقاصي والداني، إذ يلتقي المسلمون من كل فج عميق على هدى من الرحمن، فيعرف كل ما عند الآخرين، ويتبادلون الرأي فيما فيه صلاح معاشهم ومعادهم، وإعلاء شأنهم، ففي الحج يكون التطبيق العملي لقول تعالى ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ” الحجرات: 13.