هل يتغير مفهوم السعادة بعد كورونا؟… كورونا رحمة من الله وإن كرهنا

هل يتغير مفهوم السعادة بعد كورونا؟… كورونا رحمة من الله وإن كرهنا

عندما يجتاز الفرد محنة شديدة ألمَّت به كشفائه من مرض عضال، فإنه يخرج منها أكثر قوة وإصرارًا على مواجهة صعوبات الحياة، وكلنا يعرف المثل القائل بأن الصحة تاج على رؤوس أصحابها، لا يدركون قيمته حتى يفقدوه. وليس كل الناس بطبيعة الحال مروا بتجارب قاسية من مرض أو غيره من ابتلاءات ليعرفوا جوهر الأمر، ولكن في جائحة الكورونا التي تجتاح العالم في هذه الأيام، فإن الجميع – سواء هؤلاء الذين أصابهم المرض وشفوا منه بفضل من الله، أو أولئك الذين يكافحون بشتى السبل لتجنب دخول الفيروس القاتل لأجسادهم – صاروا في خندق واحد في صراعهم ضد هذا العدو الخفي، الذي لم تتكشف كل أسراره بعدُ، ولم يصل العلم إلى نقاط ضعفه التي يمكن له من خلالها مهاجمته ووضعه تحت السيطرة. هذا الخطر على الإنسانية، وربما على الكثير من الأحياء، الذي لا تراه العين وتتوجس النفس من وجوده من حولها في كل مكان – بثَّ الرعب في القلوب، وشلَّ كل معظم أشكال الحركة والنشاط البشري، وعطَّل سبل كسب الرزق، وحجر الناس في مساكنهم، ولكنه في ذات الوقت بث رسالة مفتوحة لكل البشر بأن الله قادر على تجنيد أصغر خلقه لتذكيرهم بعظمته وجبروته، وبأن حاجتهم إليه كبشر ضعفاء لا تنقطع في أزمان الشدة والرخاء على حد سواء.

لا تنفك وسائل الإعلام في أيامنا هذه عن الحديث عن التغيرات الجذرية التي سوف تطرأ على العلاقات التقليدية بين الدول في عالم ما بعد كورونا، ولكن الأكثر أهمية لنا كأفراد هو التغيرات التي حلت في نفوسنا، وعدلت جوانب في سلوكنا وعاداتنا؛ من عديد من الدروس والعبر التي تعلمناها في زمن الجائحة، وسوف تعلق في ذاكرتنا لوقت طويل بعد زوال البلاء؛ فهي لا تحصى لكثرتها، ومن وجهة نظري أن واحدة من أهم الفوائد إدراك وتقدير قيمة النعم التي كنا بها، وفقدنا البعض منها، وكيف ستتغير نظرتنا للحياة بعد أن تُرفع عنا هذه الغمة، وتنتهيَ محكومية الكورونا، وعلى رأسها عودتنا للركوع والسجود في بيوت الله، ثم لنجد أنفسنا نسعد بأبسط الأشياء التي لم نكن نلقي لها بالًا من قبل، ليس أقلها حرية الحركة والتجوال، والرغبة في العمل وعدم التذمر من ساعاته مهما طالت.

كورونا رحمة من الله …وإن كرهنا

إن فيروس كورونا آية من آيات الله في خلقه وتدبيره وفق حكمته ومشيئته.

وهو رحمة ببني الإنسان تتجلى في هذا الابتلاء العظيم والمحن والمصاعب التي نزلت بنا نحن بني آدم، وهذا المصاب الجلل أحدث زلزالاً روحياً عظيماً، وهزَّ الفِطرة في أعماقها وأغوارها؛ لإزاحة الصدأ عن أرواح كثير من بني البشر، لتحقيق أشواقها المكنونة، بعدما تشبعت بقضاياها المادية، ومعارفها العقلية، واكتشافاتها لقوانين الحياة والمادة، وحدث لها ضموراً روحياً وتصحراً وعطشاً هائلاً عظيماً.

فمن رحمة الله بهذا الإنسان أن جاء هذا الحدث التاريخي الكبير، فعرف ضَعفه وعَجزه واضطرَّ لدعاء ربه الخالق العظيم. فطبيعة البشر التي خلق الله عليها الناس عندما يشعرون بالخطر والكروب والشدائد والابتلاءات فإنهم يلجأون من أعماقهم بإخلاص عظيم إلى خالقهم (سبحانه وتعالى) سواء كان هذا الإنسان مؤمناً أو كافراً. وفي تلك الأوقات العصيبة تتجلى الحقائق، وتضمحل الأوهام، ويضعف استفزاز إبليس بصوته وتخبو جلبته بخيله ورَجلِه ومشاركته للناس في أموالهم في الربا والحرام ولأولادهم في الزنا والفساد. فعندما تنهار المؤسسات الربوية الإبليسية، أليس هذا من رحمة الله!؟

وعندما تُقفَل النوادي الليلية وتنخفض نسبة بيع الخمور ويعزف الناس عن الدعارة ويتحررون من الشبهات والشهوات وترجع إليهم عقولهم للتفكير في هذا المصاب الكبير فتقودهم إلى خالقهم الرحمن الرحيم، فينكسرون ويتضرعون بين يديه. أليس هذا من رحمة الله!؟

ويبحث المفكرون والمثقفون والعلماء والسياسيون عن الحلول الناجعة، فإذا بإرشادات النبي (صلى الله عليه وسلم) وتعاليمه تحيا من جديد، كقوله صلى الله عليه وسلم: ما أنزل الله من داء إلا أنزل معه دواءس. وينتشر هديه في الطهارة ورفع النجاسة والحجر الصحي، وتَكتب كبرى الصحف العالمية عن ذلك. أليس هذا من رحمة الله!؟

وعندما تتبخر وعود الشياطين الزائفة، وتنهار أمام أصحابها في القِمار والربا والظلم وسفك الدماء وأخذ أموال الناس بالباطل سواء أفراداً أو شعوباًة أليس هذا من رحمة الله!؟

وعندما نرى اسم الله (الرافع) في خلقه بقلوب مفتوحة، وعقول متدبرة، ونرى اسم الله (الخافض) في المخلوقين، واسمه (المحيي) و(المميت) و(الوارث)… أليس هذا من رحمة الله!؟

وعندما يرجع الإنسان إلى إنسانيته وحقيقته، ويُجيب عن هذه الأسئلة الوجودية الكبرى من أين أتيت ولماذا خلقت وإلى أين المصير وإلى آخره من الأسئلة. كقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ(36) (سورة الطور: 35  37).

إن هذا البلاء يحمل في طياته رحمات ونعم لا تعد ولا تحصى، وتدبر معي في قوله الله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ (الأنعام: 54). وفي الحديث القدسي: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِيس.

إن ربنا العظيم الذي خلقنا وخلق هذا الخلق يستحيل أن يكون إلا رحيماً، فرحمته من لوازم ذاته، ولهذا كتب على نفسه الرحمة، ولم يكتب على نفسه الغضب. وقد قالت الملائكة في دعائها: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (سورة غافر: 7).

إن هذا الحدث تتجلى فيه رحمات الله عندما اضطر الكثير من الغافلين بالرجوع إليه ودعائه والاستغاثة به والتضرع والانكسار بين يديه.