-
-
روتايو.. وزير أراد صعود الإليزيه…فانتهى على هامش السياسة
-
-
-
سقوط روتايو.. نهاية مرحلة من الغطرسة وبداية زمن الواقعية السياسية
-
-
-
الجزائر تفرض معادلة جديدة للعلاقات: الندية قبل المجاملة والسيادة فوق كل اعتبار
-
بعد أشهر من التصعيد واللغة المتعالية، خرج برونو روتايو من الحكومة الفرنسية بصمت يشبه نهاية فصل سياسي لم يجد من يصفّق له، بينما كانت الجزائر تتابع المشهد بابتسامة سيادية هادئة تقول أكثر مما تُصرّح.
الوزير الذي ظنّ أنه قادر على الوصول إلى الإليزيه عبر مهاجمة الجزائر، وجد نفسه خارج اللعبة، بعدما تحوّلت ورقته العدائية إلى عبء على باريس نفسها. هكذا، تنقلب المعادلة: فرنسا تراجع خطابها، والجزائر تثبت أن الاحترام لا يطلب بل يفرض. وبين سقوط رجل وبقاء دولة ثابتة على مبادئها، يطرح السؤال من جديد: هل تعيد باريس لغة الاحترام، بعدما تعلّمت أن “الجزائر لا تُستفز… بل تحترم؟” . خروج برونو روتايو من الحكومة الفرنسية كان سقوطا سياسيا مدوّيا لوزير جعل من معاداة الجزائر سلّمه إلى الشهرة، قبل أن تتحوّل تلك الشهرة إلى لعنة أحرقت مشروعه. فالرجل الذي اعتقد أن التصعيد ضد الجزائر سيكسبه تعاطف اليمين ويُقرّبه من الإليزيه، وجد نفسه أخيرا خارج المشهد تماما، ليكتشف متأخرا أن الجزائر ليست موضوعا انتخابيا، بل دولة تعرف كيف تُعيد الخصوم إلى حجمهم الحقيقي. منذ بداية تصعيده ضد الجزائر، كانت المؤشرات واضحة على أن روتايو يلعب بالنار في ملف لا يحتمل المزايدة، فقد تعامل مع العلاقات الجزائرية الفرنسية بعقلية استعمارية قديمة، ظنّا منه أن “الجزائر دولة يمكن توجيه الإملاءات إليها”، لكن الرد الجزائري، الهادئ في لهجته والحازم في جوهره، نسف تلك الصورة تماما، وأثبت أن “الجزائر الجديدة لا تخضع للابتزاز، ولا تردّ على الاستفزاز بالكلمات، بل بالمواقف”. وهكذا، تحوّل كل استفزاز إلى ارتداد سياسي عليه، حتى غرق في صمته الأخير داخل حكومة لم تعد تجد مكانا لخطابه المتشنج. الدرس جاء من الجزائر، لا من باريس. فالدبلوماسية الجزائرية لم تنجر إلى المهاترات، بل واجهت الوقاحة بالاتزان، والضجيج بالسيادة. تركت روتايو يرفع صوته حتى تعب من الصراخ، ثم ردّت عليه بالفعل السياسي الذي لا يحتاج إلى بيانات، واليوم، حين يغادر المشهد خالي الوفاض، لا يبدو أن الجزائر تحتفل بسقوطه، بل تسجل في هدوء انتصارا جديدا يُضاف إلى سجلها الدبلوماسي، يؤكد أن زمن الوصاية انتهى، وأن “من يرفع صوته على الجزائر.. سيسقطه صمْتها الفاعل”.
روتايو.. من وهم الإليزيه إلى هامش النسيان
وإذا كان سقوط روتايو قد شكّل نهاية طبيعية لمسار سياسيٍ مضطرب، فإن ما يسبق النهاية أكثر أهمية من النهاية ذاتها. فالرجل الذي قدّم نفسه كـ”صوت فرنسا القوي” سرعان ما تحوّل إلى مجرد صدى لخطاب متوتر فقد تأثيره في الداخل والخارج. لقد ظنّ أن طريق الإليزيه يُعبّد بالتصعيد ضد الجزائر، وأن المزايدة على ملفات الذاكرة والهجرة ستفتح له أبواب المجد، غير أنه لم يدرك أن فرنسا تغيّرت، وأن العالم لم يعد يتسامح مع لغة التعالي والعداء. لقد صنع روتايو لنفسه صورة “الوزير الصدامي”، وتغذّى على خطاب مشحون بالغرور والهيمنة، مدّعيا أنه يدافع عن “هيبة الدولة الفرنسية”، بينما كان في الحقيقة يهاجم قيمها الدبلوماسية الراسخة. منعه الدبلوماسيين الجزائريين من ممارسة مهامهم في مطارات باريس، كان ذروة هذا الانحدار السياسي، إذ عرّى هشاشة الرجل أمام القانون الدولي وكشف تناقضه مع أبسط مبادئ فيينا التي يُفترض أنه يحترمها. ومع كل تصريح متشنّج، كان يخسر مزيدا من المصداقية داخل الأوساط الفرنسية نفسها، حتى صار رمزا للتوتر لا للسلطة، وللشعبوية لا للمسؤولية. لم يكن يحتاج الأمر إلى أكثر من الوقت كي ينكشف زيف البطولة التي رسمها لنفسه. فباريس التي تغاضت مؤقتا عن تهجمه على الجزائر، أدركت أخيرا أن خطاب روتايو لم يجلب سوى العزلة والتوتر. ومع رحيله، تنفّست الدبلوماسية الفرنسية الصعداء، فيما اكتفت الجزائر بمتابعة المشهد بصمت المنتصر الذي لا يحتاج إلى تبرير انتصاره. هكذا انتهت مغامرة الرجل الذي أراد أن يصنع مستقبله من رماد العلاقة مع الجزائر، فإذا به يغادر المشهد السياسي على وقع درس مفاده أن “الغرور لا يصنع المجد… والاحترام وحده يصنع التاريخ”.
الجزائر لا تشمت.. لكنها لا تنسى
وإذا كان سقوط روتايو قد أراح باريس من عبء سياسي ثقيل، فإنه كشف في المقابل عن نُضج الموقف الجزائري الذي تعامل مع الحدث ببرود الواثق لا بشماتة المنتصر. لأنها تعرف أن الزمن وحده كفيل بردّ الاعتبار. فمنذ بداية الأزمة، اتخذت موقفا محسوبا بدقة: لا ردّ على الإساءة إلا بالفعل، ولا ردّ على الغرور إلا بالصمت المدروس. لقد تركت روتايو يستهلك نفسه بخطابات حادة لا تُنتج سوى الصدى، بينما كانت تُعيد بهدوء بناء صورتها كقوة إقليمية تحترم نفسها وتفرض احترامها. هذا السلوك الهادئ لا يعني تجاهلا ولا تنازلا، بل يعكس فلسفة جديدة في الدبلوماسية الجزائرية تقوم على مبدأ “الردّ بالنتائج لا بالكلمات”. فالجزائر تدرك أن الردّ الصاخب يُشبع الغضب، لكنه لا يصنع الهيبة، بينما الصمت الفاعل يُربك الخصوم ويُعلّمهم الدرس الأعمق. لذلك، كان موقفها من روتايو نموذجا في الاتزان: لا تشفٍّ، لا تصعيد، ولا تبرير. فقط ثقة راسخة بأن من يتجاوز حدود الاحترام مع الجزائر سيتلقى الجواب في الوقت المناسب وبالأسلوب المناسب. ولأنها دولة مؤسسات لا انفعالات، اكتفت الجزائر بأن تُسجل في التاريخ أن الرجل الذي أراد أن يهاجمها خرج من الباب الضيق، دون أن ترفع صوتها. لقد أثبتت الجزائر من خلال هذا الموقف أن الكرامة لا تحتاج إلى منبر، وأن القوة الحقيقية ليست في حدة الردّ، بل في ضبطه. فالدبلوماسية الجديدة التي أرساها، الرئيس عبد المجيد تبون، تقوم على التوازن بين الحزم والرزانة، وعلى مبدأ أن “الصمت حين يأتي من موقع قوة، يكون أبلغ من أي تصريح”. واليوم، بينما تتأمل باريس نتائج تصعيدها، تبدو الجزائر ماضية في طريقها بثبات، لا تُراكم الأزمات، بل تُراكم الدروس، وتُرسل رسالة واضحة: “قد نغفر التجاوز، لكننا لا ننساه، ولن نسمح بتكراره”. هذا الانتقال الهادئ يمهد للمرحلة التالية من النقاش: ماذا بعد سقوط روتايو؟ وكيف ستتعامل الجزائر مع صفحة جديدة تُكتب في باريس؟
العلاقات الجزائرية-الفرنسية.. بين صفحة تُطوى وأخرى تُكتب
ومع خروج روتايو من المشهد، بدا أن صفحة من التوتر الطويل قد طويت، ولو جزئيا، لتُفتح أخرى تحمل ملامح اختبار جديد للعلاقات الجزائرية الفرنسية، فغياب الرجل الذي كان يُجسد “لغة التصعيد” عن الحكومة الفرنسية، أعاد إلى الواجهة سؤالا طال انتظاره: هل تستطيع باريس فعلا أن تُغيّر خطابها وتتعامل مع الجزائر بمنطق الندية لا الوصاية؟ الجزائر، من جانبها، لا تغلق الأبواب ولا تقاطع أحدا، لكنها تضع معيارا واضحا لأي علاقة مستقبلية: الاحترام أولا، والمصالح المتبادلة قبل المجاملات. لقد أثبتت التجربة أن العلاقات بين البلدين لا يمكن أن تُبنى على المزاج أو النوايا، بل على موازين المصالح والسيادة المتبادلة. الجزائر، التي واجهت حملات التشويه ومحاولات الضغط خلال السنوات الأخيرة، خرجت أكثر قوة وثقة بذاتها، بعدما رسّخت نموذجا جديدا في التعاطي مع الشركاء الدوليين، أساسه أن “من يريد التعاون معنا عليه أن يتعامل معنا كدولة كاملة السيادة”. وفي المقابل، تدرك فرنسا أن استمرار النهج القديم لم يعد ممكنا، وأن لغة التهديد والتعالي لم تعد تجدي نفعا مع الجزائر الجديدة التي تُفاوض من موقع قوة لا من موقع استجداء. ورغم التباينات التي شهدتها المرحلة الماضية، فإن الجزائر لا تُمانع في إعادة ترميم العلاقة متى تغيّر الخطاب وتغيّر السلوك. فالاحترام المتبادل أساس أي تقارب حقيقي بين بلدين تجمعهما ذاكرة معقدة ومصالح مشتركة. لذلك، تبدو المرحلة المقبلة مرهونة بإرادة باريس في تجاوز عقد الماضي والاعتراف بشريك لم يعد يقبل الأدوار الثانوية. وهنا بالضبط تضع الجزائر القلم على الورقة لتكتب مع فرنسا صفحة جديدة، عنوانها الصراحة بدل الالتفاف، والسيادة بدل المجاملة، والندية بدل التبعية… لتُمهّد الطريق نحو الشرط الحاسم الذي لا يمكن تجاوزه: الاحترام المتبادل.
الاحترام المتبادل.. الشرط الأول لعودة الدفء
وبعد أن يفتح الباب لصفحة جديدة في العلاقات بين الجزائر وباريس، يبقى السؤال الأهم: بأي شروط يمكن لهذا الدفء أن يعود؟ الجزائر، التي لم تغلق يوما قنوات الحوار، تضع اليوم خطوطها الحمراء بوضوح غير مسبوق: لا علاقة من دون احترام متبادل، ولا شراكة من دون مساواة في الكرامة والسيادة. فالزمن الذي كانت تُمنح فيه الوعود من طرف واحد قد مضى. الجزائر الجديدة لا تبحث عن اعتذار، بل عن سلوك يعكس نية صادقة في التعامل بندّية ومسؤولية. ومن أراد أن يفتح صفحة جديدة معها، فعليه أن يتحدث بلغة واحدة مفهومة في الجزائر: لغة الاحترام. لقد تغيّر المشهد الدبلوماسي كثيرا منذ سنوات، والجزائر لم تعد تقبل أن تُعامل كملف تابع أو موضوع للنقاش الداخلي في فرنسا. هي اليوم طرف فاعل في محيطه الإقليمي، وصوت مسموع في المحافل الدولية، وشريك اقتصادي وأمني لا يمكن تجاوزه. لذلك، فإن عودة العلاقات إلى مسارها الطبيعي تمر عبر مراجعة حقيقية لأسلوب التعاطي الفرنسي مع ملفات التعاون، بدءا من الذاكرة، مرورا بالهجرة، وصولا إلى التنسيق الأمني والاقتصادي. الجزائر مستعدة للتعاون، لكنها غير مستعدة للسكوت عن التجاوز، لأن الندية في التعامل مبدأ سيادي لا يقبل المساومة. وهكذا، تبدو العلاقات بين الجزائر وفرنسا أمام مفترق طريق حاسم: إمّا أن تُبنى على أسس جديدة تُحترم فيها المصالح والسيادة المتبادلة، أو تظلّ رهينة عقلية قديمة تُعرقل كل محاولات التقارب. والجزائر، بثقتها الهادئة وموقعها المتصاعد، لا تستعجل الخطوات، بل تراقب الأفعال لا الأقوال. فبالنسبة لها، الاحترام شرط وجودي لأي علاقة متوازنة.
م. ع