بعد أن تَمضي بنا آياتُ فرْض الصوم مِن سورة البقرة موضِّحة أنَّ الله فرَض الصوم على الأمَّة الإسلاميَّة كما فرَضه على الأمم السابقة، وأنَّ هذا الصوم في أيَّام قليلة معدودة، وأنَّه سبحانه يَتَفَضَّل بالترخيص للمسافِر والمريض والضعيف بالإفطار، ثم يَقضي في أيام أخرى، ثم يتحدَّد زمَن الصوم تحديدًا واضحًا، فتذكر الآيات أنَّ هذا الزمن هو شهْر رمضان مِن كل عام، ثم تتجلَّى رحمة الله بتَكْرار ذِكر الرخصة للمسافِر والمريض تأكيدًا لتلك الرُّخصة، وإعلانًا بأنَّ اللَّه سبحانه رحيمٌ بعباده، لا يُريد بهم العنَتَ والمشقَّة والتعذيب، وإنَّما يُريد الخير واليسر والرحمة، ثم ينقطع سياقُ الحديث عن الصوم رغمَ أنَّ له بقيةً؛ ليقول الله تعالى: ” وَإِذَا سَأَلَكَ_ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ_ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ” البقرة: 186.
وفي هذه الآية التفاتٌ عن مخاطبة المؤمنين بأحكام الصِّيام إلى خِطاب الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم لنعلم الأمَّة ما يَنبغي أن تراعيَه في هذه العِبادة من الطاعة والإخلاص والتوجُّه إلى الله وحْده بالدُّعاء؛ لأنَّه سبحانه وحده الجديرُ بالإجابة، وتضَع الآية شروطًا ثلاثةً لإجابة الله دُعاءَ مَن يدعوه؛ أولها: أن يُعلن صاحب الحاجة عن حاجتِه بالتوجه إلى الله وحْدَه بالضراعة والدعاء، وهذا التوجُّه في حدِّ ذاته بالفزَع إلى الله وحْده، إنَّما هو براءةٌ معلَنة مِن قوَّة كلِّ قوي، ومن حوْل كلِّ ذي جاه أو سُلطان إلى حول الله وقوَّته، أو بعبارة أخرى: فإنَّ هذا التوجه لله وحده إنَّما هو قمَّة التوحيد أو قِمَّة العبادة كما يقول الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم: “الدُّعاءُ هو العِبادة”، وهذا الشرط هو ما يُعبِّر عنه القرآن بكلمتي: ” إِذَا دَعانِ “، ثم يأتي بعدَ ذلك الشرْط الثاني: ” فَلْيَسْتَجِيبوا لي “، وهو توجيهٌ إلى أنَّ الدعاء لا يُقبل حتى لو توجَّه به صاحبُه إلى الله ما لم يكُن مستجيبًا لله منفذًا لأوامره، مجتنبًا لنواهيه، ملتزمًا بشرعه وسُنَّة نبيِّه.