أنا في غرفتي وحدي وفي شرفتها أقف بمفردي لأبدد أحزاني وأروي أشواقي من سحر هذه الليلة المقمرة، أشبع ظمئي للصفاء والأصالة من قريتي الصغيرة وبين أحضان أرضي الطاهرة وسمائها المباركة التي لا يعرف الخبث والمكر لها طريقا، أشعر أني في الجنة بين أفراد عائلتي بالقرية وأناسها الطيبين الأنقياء.
منذ أيام فقط استلمت عطلتي السنوية من إدارة المؤسسة التي أعمل فيها بالعاصمة، وبلهفة كبيرة استقليت القطار الذي جاء بي إلى بلدتي الصغيرة النائية، إلى مملكتي الساحرة، بصراحة أريد أن يتوقف الزمن ها هنا ..
هذه الأيام لا أريدها أن تنتهي، يا ربي كيف يمكنني أن أفعل هذا؟ أوقف عجلة الزمن وأجمد عقارب الساعة وأؤجل الشروق والغروب حتى لا ينتهي الجمال حتى لا يذهب السحر، حتى تتلاشى الأحزان ويذهب الغدر والمكر بعيدا، حتى تموت الخيانة وينتحر الكذب والنفاق، الحمد لله الذي جعل لي بيتا في الريف لأستعيد فيه انسانيتي ولأسترجع فيه روحي، لأنتصر فيه على أحزاني التي تسببها لي العاصمة وأناسها الماكرون، هاتفي النقال يرن فوق غطاء سريري أتذكر حينها أني لم أجعله خارج نطاق التغطية، كيف نسيت ذلك؟، أفيق من حلمي الجميل، أدخل إلى غرفتي مهرولة وأبحث عنه، أجده بسرعة لأن رنته الموسيقية لم تتوقف ودون حتى أن أرى رقم المتصل أقفله وأضعه في درج خزانتي المنتصبة أمام سريري مثل حارسه الأمين، أردد في قرارة نفسي :
يجب أن أبقى خارج نطاق التغطية لا أريد أن يعكر صفوي أحد ثم أن معظم المتصلين بي يزعجونني بطلباتهم في أن أسدي لهم خدمة وبعضهم يتجسسون على أخباري، إنهم سطحيون يريدون ملء فراغهم بالتقصي عن أخبار الريف وأحوال أهلها، فهم سكان المدينة الذين جاءوا من كوكب مختلف حسب اعتقادهم الغبي، لا يعرفون شيئا عن القرويين، نظرة التعالي وأسلوب التبجح والغرور يملأ أحاديثهم التافهة ويجعلهم يتصرفون بطريقة تضحكني وتزيد قرفي منهم يوما بعد آخر ..
أحمل كرسيا من غرفة مكتبي أخرجه إلى الشرفة لأجلس عليه تحت ضوء القمر، تقترب الساعة من الثانية صباحا، النوم ما زال يخاصم عيوني، الشعور بأني أريد للزمن أن يتوقف يزداد في داخلي، ورغبة ملحة في أن يتوقف العمر ها هنا تتسرب إلى رأسي مثلما يتسرب الماء إلى فم ظمآن، عطش، ذكريات المدينة تنأى بعيدا، ببنزينها المحترق، بقمامتها المنتشرة في كل مكان الروائح الكريهة، أصوات الباعة في أسواقها الكثيرة، متسولوها، حافلاتها الصدئة، المهترئة، سياراتها الأنيقة، فتياتها الشبه عاريات، شبانها الفارغون، عجائزها المتشبهات بفتيات في سن العشرين، شيوخها الذين يعانون من مرض المراهقة المتأخرة، كل هذه الأشياء البغيضة المتعبة بعيدة عني الآن، آه كم أنا سعيدة ومرتاحة، ما أجمل الحياة عندما أنزع أثوابي التي أنا مجبرة على ارتدائها بسبب شغلي في العاصمة وأعود إلى قريتي لألبس ثوبي الحقيقي، ثوب الفلاحة، ثوب الطبيعة، الطيبة، النقاء، ثوب الصدق والاخلاص
والترفع عن كل ما هو وضيع ومنافي للأخلاق الانسانية، آه كيف يختلف منطق التفكير بين هنا وهناك، لن يكفي عمري عمرا آخر حتى أحاول أن أجد تفسيرا مقنعا، لا لن أفكر، لن أبحث، لن أقنع، لن أقارن، لن أشرح، لن أجادل… الحمد لله الذي جعل لي بيتا في الريف لأهرب من صخب المدينة وضوضائها.
بقلم: أمال عسول