نوفمبر … شعلة لا تنطفئ

 نوفمبر … شعلة لا تنطفئ

 

جلستُ مع شيخ أحسبه في الثمانين من عمرهِ أو أقل بقليل، سألته إن كان من همِّه لو يَروي لي كلمات عن حبكة الجزائر في ظل المحتل الفرنسي، فاغتبط لمرادي من جانب الفضول، ثمَّ استأذنني ألا يُطيل الحديث، فأنشأ يقول بصوت صادق تُصاحِبه الغصات والتنهدات: يا بني، في زمني قد تسرَّب حنَقنا للمحتل الفرنسي في جميع البيوت وجميع نفوس الجزائريين، وطِئت أقدام فرنسا أرضَ وتراب الوطن، وكانت تلك الوطآت كأنَّها طعنات على قلوبنا من شدة نُكرنا للوجود الاحتلال أو فكرة مكوثه. الجوع والعوز والسقم والبوار والقحط أهون علينا وأخفُّ من وجود مُحتل مُقتحِم على أرض الجزائر الطَّاهرة، أرض لا نقبَل أن يعكَّر صفو بحارها بأساطيل مدمِّرة تفرز البارود والرصاص من البارجات، لا نقبل أن تُدنَّسَ حدائقنا الربيعيَّة بنعالِ جنودها الجاسية. لكن كان لفرنسا من التعذيب والتمشيط ما لم يكن لنا من القدرة على ردعِه؛ فاستغلت عجْزنا في ذلك الوقت أمام جبروتها ومعاونة حلفائها من الغرب، فسرَقت رجالنا على مضض منَّا، واغتصبَت حُرماتنا، وجعلت من أطفالنا عبيدًا لها وخدَمًا، وبنَتْ فوق حقولنا الكنائس والقصور بعد تدمير أكواخِنا ومساجد الله.

طال الوجود الفرنسي في فضاء جزائرنا فظلَّ يزيد وجع قلوبنا يومًا بعد يوم، لم تكن إرادة بلاد المحتل في ضم بلادنا إلى خارطتهم أن تنفد؛ لولا يأسُها من شعب لا يعرف إلا حروف الحرية وكلمة الاستقلال. اصطدمَت فرنسا بجدار شاده شعبنا بطوب عظامهِ وجماجمه، ورسَّخه بدمائه وخضابه، انتصب المحتل ذاهلاً أمام أطفال قد لبسوا ثياب الثوار ووشحوا وجوههم بنقاب الجهاد، فهل ينفع تعذيب آبائهم وأمهاتهم؟! ضحّينا منذ دهر طويل، ولم يكن يسعى تفكيرنا إلا في مستقبل أحفادنا، فأقسمنا على كتاب الحق أن نرفع غطاء الذل، وأن نصبر على القهر والخوف من حاضرِنا لكي ترثوا أنتم خير ميراث يمكن ربحه، فجاء يوم موعود لثورة أوَّل نوفمبر، فلم نبسُط السلاح من أيادينا حتَّى أبصرنا بأعين دامية آخر جندي فرنسي يَهجُر حدود الوطن وهو مخبول يتحسَّر على مطامعه الغابرة. وفي هاته اللحظة، رفع الكهل عنقه بعد كلامه هذا، وأمسك يدي بعزيمة رغم سحنته المتجعدة وحدّق في عينيَّ بشدة، وقال بصوت أغلظ من الأوَّل: “هلِّل يا بني لنوفمبر الدَّامي، هلِّلوا يا شباب لنوفمبر النصر، هلِّلي يا أمةُ لنوفمبر الإنسانية…