حاولت الحكومات المتعاقبة إيجاد حلول للمشاكل الديموغرافية الناجمة عن اختناق المدن من خلال إنشاء أخرى جديدة، لكن تطبيق هذه الخطط لم يكن بمستوى الطموحات المعقودة، فهناك هوة شاسعة بين الأرقام والواقع المرير لهذه المدن.
اعتبر خبراء اقتصاديون ومهندسون معماريون قرار الحكومة إنشاء مدن جديدة خياراً استراتيجياً فرضته التحولات الديموغرافية والاقتصادية التي عرفتها البلد في العقدين الأخيرين. وسعت الحكومة من وراء هذا المشروع إلى إيجاد حلول لحالة الاكتظاظ والضغط في المدن الموروثة من الحقبة الاستعمارية.
وكانت هناك دراسات كثيرة أكدت على ضرورة إنشاء مدن جديدة بالمناطق الداخلية والصحراوية بما يضمن توزيعاً سكانياً مقبولاً على كل مناطق الجزائر.
ومن بين المدن الجديدة، نجد المدينة الجديدة سيدي عبد الله التي تبعد عن العاصمة بحوالي 20 كلم فقط، حيث مُنح مشروع المدينة الجديدة، الذي يمتد على مساحة 2650 هكتارا الأهمية القصوى من أجل استقطاب أكثر من 1000 مؤسسة صغيرة ومتوسطة متعددة النشاطات العلمية والتكنولوجية، إلى جانب إنشاء أقطاب جامعية وتكنولوجية ضخمة وأبراج وتجمعات سكنية مع تخصيص أماكن للترفيه والتسلية تليق بمدينة القرن.
زيارتنا إلى المدينة الجديدة التي تقع على الحدود بين ولايتي الجزائر وتيبازة كشفت لنا الهوة الشاسعة بين الأرقام ومعطياتها من جانب وواقع المنطقة المرير من جانب آخر، كما يصفه سكانها. فلا شيء يشعرك أنك في مدينة العلم والتكنولوجيا، حيث تصدمك مبانٍ قديمة من العهد الاستعماري وبيوت مترامية على حواف الطريق الكثيرة التعرجات.
يعيش سكان “سيدي بنور”، التي تعد النواة الأساسية لمشروع المدينة الجديدة سيدي عبد الله، مأساة حقيقية، فهم يعانون عزلة حقيقية ولا يستطيعون اقتناء أبسط حاجياتهم اليومية إلا بالتنقل إلى “المعالمة” التي تبعد عنهم بحوالي 4 كيلومترات.
وما زاد من معاناة هؤلاء، كما يقول محي الدين، وهو أحد سكان المنطقة “انعدام المرافق الأساسية ونقص وسائل نقل من وإلى الحي السكني”، مضيفا “إننا نعيش في بلدة صغيرة منقطعة عن العالم، وهم يقولون مدينة العلم والتكنولوجيا”.
من جهته، يتأسف عبد الرحمن قائلاً: “من المؤسف حقاً ضياع هذه الهكتارات من الأراضي الخصبة التي كانت تجود بألذ أنواع العنب، دون أن يحققوا ما وعدوا الناس به”.
مدينة بوينان.. من المدينة الرياضية الجديدة إلى مدينة بلا روح
حمل مشروع مدينة “بوينان” الجديدة الكثير من المتاعب والكوابيس التي ما زالت تلاحق السكان إلى اليوم رغم مرور أكثر من ثماني سنوات على إعلان إنشاء المدينة الرياضية الجديدة على الطراز العالمي، التي تقع على بعد 50 كلم جنوب العاصمة.
ويقول المهندس عبد الرزاق. ح “إن الدراسات التقنية التي أقامتها شركة “دايو” الكورية للبناء والتشييد، لم تراع الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للسكان الأصليين، فغالبيتهم ليسوا مستعدين للعيش في عمارات والعمل خارج قطاع الفلاحة التي تمثل مصدر رزق 85 بالمائة من السكان الذين يصل تعدادهم إلى 40 ألف نسمة”.
واستنكر أغلب سكان بلدية بوينان قرار السلطات تجميد منح رخص البناء منذ 2003، والذي أتبع بقرار تجميد عملية بيع الأراضي التابعة للخواص سنة 2009. قرارات كان لها الانعكاس السلبي على وتيرة التنمية والتشييد.
وما زاد الطين بلة هو أن معظم المستفيدين من سكنات عدل والذين تم استقدامهم من العاصمة يرفضون الإقامة في المدينة الجديدة بوينان بسبب النقائص الكبيرة المسجلة هناك على غرار نقص المراكز الصحية والمدارس وعدم وجود مواقف سيارات في العديد من المجمعات السكنية على غرار حيي ١٠٠٠ و٢٦٠٠ سكن، كما يطرح السكان مشكل غياب النقل إلى العاصمة رغم تسليم جزء كبير منها قبل أربع سنوات أو أكثر، الأمر الذي دفع بالعديد من السكان إلى الاستعانة بـ “الكلونديستان” الذي استنزف ميزانيتهم.
كما أن الموقع بعيد بأزيد من ٤٠ أو ٥٠ كلم عن مقرات عملهم، حيث طالب المكتتبون في أكثر من مناسبة بتغيير موقعهم السكني، وهو المطلب الذي كاد يتحقق في عهد المدير العام الأسبق سعيد روبة الذي شرع في إحصاء المكتتبين المتضررين من التوجيه إلى بوينان تمهيدا لتحويلهم إلى مواقع في العاصمة قبل أن يجمد القرار في عهد وزير السكن الحالي طارق بلعريبي الذي وعد المكتتبين بتسليم سكناتهم قبل شهر سبتمبر ٢٠٢٠، حيث مر الموعد – يقول المكتتبون – دون تسليم الموقع ليتم تسليم جزء منه أواخر سنة ٢٠٢٠ ليبقى بقية المكتتبين في رحلة البحث عن حلول بين مقر وكالة عدل ووزارة السكن ليتم تسليم نصف المجمع السكني ٢٨ ليبقى موعد تسليم الجزء السفلي المتكون من أربع عمارات معلقا إلى أجل مجهول بسبب مشكل الصرف الصحي، حيث زارت لجنة من وزارة السكن واقترحت وضع مضخة كحل مؤقت لتسليم السكنات، وهو ما اعتبره العارفون “قنبلة” قد تحول حياتهم إلى جحيم، حيث أن وضع مضخة بدل إنجاز شبكة صرف صحي سيتسبب في كوارث بيئية في الحي في حال تعطل المضخة والأمثلة على ذلك كثيرة، حيث طالبوا هم رفقة مكتتبي المجمع السكني ٢٧ وبقية “المربعات” السكنية على غرار ٢٥ و٢٦ و٢٩و٣٠و٣١و٣٢ بضرورة إيجاد حل لمشكلتهم المتمثلة في شبكة الصرف الصحي وجبال الأتربة التي تخنق الحي والمقدرة حسب وكالة عدل بأزيد من مليون متر مكعب والتي عطلت عملية التهيئة الخارجية وربط العديد من العمارات بشبكات المياه والغاز والكهرباء، حيث طالبوا بضرورة الاعتماد على الحل الذي اقترحه الأمين العام لوزارة السكن والقاضي بتحويل المكتتبين الأوائل المتضررين إلى مواقع في العاصمة التي تحصي مواقع سكنية شاغرة، حيث أمر المكتتبين بتقديم طلب التغيير وهو ما تم بالفعل، غير أن عملية التغيير لم تتم وسط تضارب الأنباء حول تسليم سكنات المكتتبين الشهر المقبل، وهو ما زاد من مخاوفهم بأن تقوم المقاولات بأشغال سريعة لتسليم الموقع، وهو ما قد يتسبب في كوارث في حال عدم احترام مقاييس الأشغال.
أحياء بلا روح
“إبراهيم” أحد سكان العمارات الجديدة في حي “تسالة المرجة”، بالقرب من مدينة “بئر توتة” القديمة، انتقل إليها وأسرته كونه من ضحايا الفيضانات التي ضربت منطقة باب الوادي عام 2001. وبعد أزيد من 15 سنة من الصبر والانتظار حصل على بيت لائق ومفتاح الشقة، لكن الفرحة قابلتها مشاكل كثيرة أهمها تحويل أبنائه الثلاثة إلى مؤسسات تربوية قريبة من مقر السكن الجديد.
حالة إبراهيم واحدة من بين العشرات غيره ممن وجدوا في سكنهم الجديد جدراناً للمبيت فقط. وقال المهندس نور الدين. ب: “الجزائر ضيّعت الطابع العمراني في المنشآت السكنية الجديدة، والتي يغيب عنها الطابع الجمالي، فضلاً عن الطرقات الضيقة التي تفصل بينها، وافتقار مناطق تشييدها للحدائق والملاعب وعشوائية مرافقها”.
شقق شاغرة وأحياء مهجورة
أول ما يلحظه المتجول في العديد من المدن الجديدة هو الكم الكبير للشقق الشاغرة التي لم يشغلها أصحابها رغم حاجتهم للسكن، حيث أكد العديد من المستفيدين أن بُعد السكن عن مقر عملهم ودراسة أبنائهم في الجامعات دفعهم إلى تأجير شقق في مناطق قريبة، وهو ما كلفهم خسائر مالية كبيرة، حيث طالبوا وزارة السكن بإعادة النظر في عمليات توزيع السكنات.
ولم تفلح تهديدات وزير السكن السابق، كمال ناصري، الذي أمهل أصحاب السكنات الشاغرة مدة 6 أشهر من أجل استغلالها، مهددا بفسخ عقودهم وانتزاعها منهم ومنحها لأشخاص آخرين من أجل القضاء على الظاهرة، حيث كشف ناصري أن لجان التحقيق عاينت أكثر من 800 ألف وحدة سكنية شاغرة.
التوجيه العشوائي يتسبب في أزمة نقل حادة بالعاصمة
كشف العديد من المتابعين لقطاع السكن أن السلطات فوتت على نفسها فرصة ذهبية للقضاء على أزمة الاختناق المروري من خلال عمليات الإسكان الأخيرة، بسبب عدم مراعاة عنوان مقر العمل في توجيه مكتتبي عدل وأل بي بي، حيث تم توجيه مكتتبين يشتغلون بالمدينة الجديدة سيدي عبد الله إلى موقع الخروبة ببودواو وآخرون يعملون في العاصمة إلى المدينة الجديدة بوينان وغيرهم كثيرون، حيث ستطرح في المستقبل أزمة نقل أكثر حدة بعد تسليم البرنامج السكني.
فهل سيعيد القائمون على قطاع السكن في بلدنا النظر في طريقة توجيه المستفيدين من سكنات والعمل على إعادة الروح للمدن الجديدة، من خلال القضاء على النقائص وتوفير ضروريات الحياة وربطها بكل وسائل النقل العصرية من قطارات وترامواي وشبكة مترو كما هو معمول به في الدول المتقدمة التي نجحت في إسكان ملايين المواطنين في مدن جديدة تبعد عن عاصمتها بأكثر من 200 كلم، غير أن توفير وسائل النقل الحديثة طوال ساعات النهار والليل وكل المرافق الصحية والتعليمية والجامعية بها حولها إلى مدن تعج بالحياة.
رفيق. أ