نعمة الشيخوخة

نعمة الشيخوخة

إن أعراض الشيخوخة الطبيعية التي يهرُب منها الناس، ويحاولون كل المحاولات لطمس معالمها، والهروب من هيئتها – لَنِعْمَةٌ كبرى؛ فالوصول إليها أو الإحساس بها، أو مشاهدتها نازلةً بغيرك يُزهِّدك في هذه الحياة الدنيا، ويُرغِّبك فيما عند الله، يزهِّدك في الزخرف الفاني، ويرغِّبك في الذهب الباقي، جاءك نذيرُ الشَّيب، وإحساس الضعف في القِوى والوظائف؛ لتعقِلَ أنك ما خُلقت لهذه الحياة، إنما للحياة الخالدة هنالك عند رب الخلائق. نعم، هي نعمة؛ فلو أن الإنسان يعيش حياته كلها وهو شابٌّ، ويموت وهو شاب، لطغى وبغى، وغفل ولم يستعد للدار الآخرة، لكن الله من رحمته خلق الشيخوخة لتُفيق وتستعد؛ لتُحسِّن نهاية صحيفتك، وخاتمة أنفاسك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أعذر الله إلى امرئٍ أخَّر أجَلَه حتى بلَّغه ستين سنةً”، ستون سنة بالتقويم الهجري بمعنى تقريبًا 58 سنة بالتقويم الميلادي؛ قال ابن حجر رحمه الله: “قوله: “أعذر الله”: الإعذار إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبقَ له اعتذار، كأن يقول: لو مُدَّ لي في الأجَل، لَفعلتُ ما أُمرت به، يُقال: أعذر إليه إذا بلَّغه أقصى الغاية في العذر ومكَّنه منه، وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة، مع تمكُّنه منها بالعمر الذي حصل له، فلا ينبغي له حينئذٍ إلا الاستغفار، والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية، والمعنى أن الله لم يترك للعبد سببًا في الاعتذار يتمسك به، والحاصل أنه لا يُعاقب إلا بعد حُجَّة”.

قال تعالى: ” وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ” يس: 68؛ قال ابن كثير رحمه الله، وما أجمل وأروع ما قال: “يُخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره، رُدَّ إلى الضعف بعد القوة، والعجز بعد النشاط؛ كما قال تعالى ” اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ” الروم: 54، وقال: ” وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا” الحج: 5. والمراد من هذا الإخبار عن هذه الدار بأنها دارُ زوالٍ وانتقال، لا دارُ دوامٍ واستقرار؛ ولهذا قال: “أَفَلَا يَعْقِلُونَ” يس: 68؛ أي: يتفكرون بعقولهم في ابتداء خَلْقِهم، ثم صيرورتهم إلى نفس الشَّبِيبة، ثم إلى الشيخوخة؛ ليعلموا أنهم خُلِقوا لدار أخرى، لا زوال لها ولا انتقال منها، ولا مَحِيدَ عنها؛ وهي الدار الآخرة”. وليعلم العبادُ كمالَ قدرة الله التي لا تزال مستمرة يخلق بها الأشياء، ويدبر بها الأمور، ولا يلحقها إعياء ولا ضعف، ولا نقص بوجه من الوجوه”. قال ابن كثير: “ثم يشرع في النقص فيكتهل، ثم يشيخ ثم يَهْرَم، وهو الضعف بعد القوة، فتضعُف الهِمَّة والحركة والبطش، وتشيب اللِّمة، وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة؛ ولهذا قال: ” ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ” الروم: 54. والعاقل هو من يستغل شبابه وعمره قبل أن يذوق ضعفه وهرَمَه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يَعِظُه: “اغتَنِمْ خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هَرَمِك، وصحتك قبل سُقمك، وغِناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”. والعاقل هو من يَعتِبر بحاله، ويتَّعظ إذا ما وصل إلى سن الضعف والشيبة والهرم، ويستغل باقي حياته في طاعة الله، ولم يضيع نفائس أنفاسه فيما لا يفيد، ويحسن وفادته على ربه، ويهيئ مِهاده قبل الرحيل.

من موقع الألوكة