إنّ بلادنا تشهد تحوّلاتٍ تاريخيّةً؛ وتمرّ بمرحلة فاصلة في مسيرتها الحافلة بالأحداث والذكريات. بالأمس القريب، احتفلنا بالذّكرى الثالثة والستّين لعيد النّصر، ذكرى انتصار الشّعب الجزائري، بعون الله، على جحافل الاحتلال. جاء ذلك بعد تضحيات جسام، وجهاد طويل أعطى فيه شعبنا أروع الأمثلة من الصّمود والفداء والاستبسال. ونحن نفرح بهذا العيد المبارك، يقف التاريخ ليذكّرنا أنّ العدوّ الّذي واجهناه بالسّلاح، وخرج من أرضنا، مذموما مدحورا، قد يعود إلينا من أبواب الفساد، ومن نوافذ النّهب والاحتكار. وإنّ أخطرَ ما يهدّد الأوطان، بعد الاستعمار، سرقةُ مقدّرات الشعوب، ونهبُ ثرواتها، والتّلاعبُ بمستقبل أجيالها. وكما واجه شعبنا جيش الاحتلال، بصدور عارية؛ يواصل أبناؤه، بكلّ قوّة، مواجهة الفساد. فلا قيمة للاستقلال، إذا لم نثبِّت دعائمه، ونستكملْ مقوّماته. إنّ الشهداء لم يرتقوا ليُنسى ذكرهم، ولم يضحّوا لنعود إلى الوراء بعدهم؛ فننطقَ بلسان غيرنا، أو نفكّرَ بعقل غيرنا، أو نُدجَّنَ في ثقافة غيرِ ثقافتنا. ونحن نودّع شهر الصيام، ونستقبل عيد الفطر، بقلوبٍ مفعمةٍ بالحمد والثناء؛ نقف عند هذه المحطّة المباركة لنتأمّل في نِعَم الله التي لا تعدّ ولا تُحصى؛ وأعظمها نعمة الأمن والاستقرار التي نحياها، بفضل الله، في وقتٍ تعصف الفتن والأزمات بكثيرٍ من المجتمعات؛ والبعض لم يجد في يوم العيد موضعًا لصلاة العيد، ولا مائدةً تجمع أبناءه، ولا وطناً يحتضنه ويُؤويه. فلنحمد الله على هذه النعمة العظيمة، ولندركْ أنّها أمانةٌ تُصان، ومسؤوليةٌ تُحمَل، وعملٌ يُبذل بإخلاص لتثبيتها وتعزيزها والمحافظة عليها. وإنَّ من بشائر الخير التي تُثلج الصدر، أنّ مسيرة البناء والتنمية في بلادنا تتواصل بخطًى واثقة، في سعيٍ مباركٍ لتحقيق الاكتفاء، واستثمار مقدّرات الوطن، وصيانة خيراته، تحقيقًا لوعد الله: “هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًۭا فَٱمشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ”. إنّ الجزائر كانت، وما زالت، بفضل الله، شامخة عزيزة بعزّ الإسلام، تأبى أن تُطأطئ رأسها لغير الله. وأبناؤها يؤمنون أنّ الاستقلال الحقيقيّ ليس مجرّد علَم يُرفع، ولكنّه سيادة تُحمى، وهُوّية تُصان، وقرارٌ مستقلّ لا يخضع لإملاء. فلا سبيل لأحدٍ على أرض الشّهداء، ولا طريق لمن يريد أن يُعيد عقارب الساعة إلى الوراء. قال تعالى: “وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا” النساء: 141. إنّ عيدنا هذا يُهلّ على الأمّة والدموع لم تجفّ، والقلوب مثقلة بالجراح. عيدنا تظلّله غمامة الحزن على حال أهلنا وأشقّائنا في فلسطين، الّذين يرابطون اليوم في غزّة العزّة، وفي الضّفّة، وعلى ثرى المسجد الأقصى، يقفون أعزّةً برغم الجراح، صابرين رغم الحصار، شامخين رغم العدوان.
الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر