احتضن المجلس الإسلامي الأعلى ندوة علمية تحت عنوان “ترشيد الاستهلاك بين الشريعة والصحة والمجتمع المدني”، بمشاركة نخبة من المختصين والخبراء، حيث تناولت الجلسات مختلف الأبعاد المرتبطة بالاستهلاك المسؤول، انطلاقا من الرؤية الشرعية، مرورا بالبعد الاقتصادي والاجتماعي، وصولا إلى التحديات الصحية التي تفرضها العادات الاستهلاكية الخاطئة.
الشرع الإسلامي وترشيد الاستهلاك..
افتتحت الندوة بكلمة الشيخ مبروك زيد الخير، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، حيث أكد على أهمية ترشيد الإنفاق باعتباره مسؤولية شرعية وأخلاقية، محذرا من مخاطر التبذير المرهق والشح المهلك، استنادًا إلى قوله تعالى: “ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا”. كما شدد على أن الإسلام يدعو إلى التوازن في الاستهلاك، بعيدا عن الإسراف والتقتير، خاصة خلال شهر رمضان، حيث تتزايد معدلات التبذير بشكل لا يتناسب مع تعاليم الدين الحنيف.
الاستشراف واليقظة الاستراتيجية في السلوك الاستهلاكي..
من جهته، تناول الأستاذ بشير مصيطفى، رئيس المؤسسة الجزائرية “صناعة الغد”، مسألة ترشيد الاستهلاك من منظور استراتيجي، مشيرا إلى أهمية اعتماد منهجية اليقظة الاستراتيجية التي تشمل ثلاثة أبعاد رئيسية: اليقظة الصحية، اليقظة الروحية، واليقظة الاستهلاكية. كما أشار إلى أن الجزائر بحاجة إلى رصد وتحليل السلوك الاستهلاكي العائلي خلال الفترة الممتدة بين 2025 و2050، من خلال الإحصائيات واستطلاعات الرأي، بهدف وضع سياسات فعالة لترشيد الاستهلاك. وفي ختام مداخلته، أعلن عن تنظيم ندوة قادمة في شهر أفريل، ستتناول موضوع “مخاطر الإنترنت على جيل التلاميذ والأطفال في أفق 2050″، داعيا الحضور إلى المشاركة فيها لمواصلة النقاش حول القضايا الاستراتيجية المؤثرة على مستقبل المجتمع الجزائري.
رمضان بين العبادة والاستهلاك المسؤول..
أما الأستاذ زبدي، فتناول في مداخلته موضوع “ترشيد الاستهلاك في رمضان: نحو وعي استهلاكي مستدام”، حيث أشار إلى أن شهر رمضان يجب أن يكون فرصة لتعزيز قيم التضامن والاستهلاك المسؤول، لكنه يشهد في الواقع ارتفاعا كبيرا في معدلات التبذير، خصوصا في المواد الغذائية مثل الخبز، حيث تشير بعض الإحصائيات إلى إهدار مئات الكيلوغرامات من الخبز يوميا. وأكد على أن الحل يكمن في اعتماد استراتيجيات فعالة للحد من الهدر، من خلال استخدام التكنولوجيا لنشر حملات توعوية عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وتطوير تطبيقات رقمية لمراقبة الاستهلاك الغذائي وتقديم إرشادات حول الكميات المناسبة للاستهلاك اليومي. بالإضافة لتحسين التخطيط الغذائي عبر إعداد قوائم تسوق تعتمد على الاحتياجات الفعلية فقط. وكما يجب فرض ضرائب على المؤسسات والمطاعم التي تهدر كميات كبيرة من الطعام، مع تقديم حوافز مالية للشركات التي تتبنى سياسات تقليل الهدر الغذائي.
البعد الديني والاقتصادي للاستهلاك الرشيد..
في مداخلته، أكد الأستاذ العربي شايشي، على أن رمضان ليس فقط شهر الصيام والعبادة، بل هو أيضا فرصة لترشيد الاستهلاك وتقليل النفقات، مشيرًا إلى أن الإسلام يحث على التوازن في الإنفاق ويحذر من الإفراط والتبذير. كما لفت المتحدث، إلى الآثار السلبية للاستهلاك المفرط على مختلف الأصعدة، موضحًا أنه يؤدي إلى مشكلات اقتصادية واجتماعية وصحية وحتى دينية. فعلى الصعيد الاقتصادي، يتسبب الاستهلاك المفرط في ارتفاع الأسعار وزيادة الطلب غير المبرر. أما صحيًا، فإنه يساهم في انتشار الأمراض مثل السمنة والسكري. ومن الناحية الاجتماعية، يعزز ثقافة التفاخر والمباهاة، بينما يتعارض دينيا مع تعاليم الإسلام التي تدعو إلى الاعتدال وحسن التدبير. واقترح مجموعة من الحلول لمعالجة هذه الظاهرة، من بينها إطلاق حملات إعلامية توعوية، خاصة في شهر رمضان، لتشجيع السلوك الاستهلاكي الرشيد. كما دعا إلى تشديد الرقابة على الأسواق لمنع التلاعب بالأسعار والاحتكار، بالإضافة إلى تعزيز ثقافة الادخار والتخطيط المالي لدى الأسر الجزائرية.
التحديات الصحية المرتبطة بالاستهلاك في الجزائر..
من جانبه، قدم الدكتور بن اشنهو، مداخلة حول “التاريخ الصحي للجزائر بعد الاستقلال”، حيث استعرض التحديات الصحية التي واجهتها البلاد، خاصة بعد الاستقلال، حينما كان النظام الصحي يعاني من نقص حاد في البنى التحتية والموارد البشرية. وأشار إلى أن الجزائر حققت تقدما في المجال الصحي، إلا أن بعض التحديات لا تزال قائمة، أبرزها ارتفاع معدلات الإصابة بالسكري، حيث يعاني منه حوالي أربعة ملايين جزائري، مع وجود عشرة ملايين شخص في مرحلة ما قبل السكري. وأكد على أن الوقاية خير من العلاج، مشددا على ضرورة تعزيز الوعي الصحي بين المواطنين لتجنب الأمراض المزمنة، وذلك من خلال حملات توعوية وتثقيفية تسلط الضوء على أهمية اتباع نمط حياة صحي. كما دعا إلى إعادة تنظيم القطاع الصحي بما يتناسب مع الزيادة السكانية والتحديات المستجدة، لضمان توفير رعاية صحية شاملة وعادلة للجميع. وأشار إلى أهمية تشجيع البحث العلمي لدراسة المشكلات الصحية الناشئة، بهدف إيجاد حلول فعالة ومستدامة لمواجهة الأمراض الجديدة والمتغيرة. وفي السياق ذاته، أكد على ضرورة تقوية الصناعة الدوائية المحلية لتقليل التبعية للخارج، من خلال دعم الإنتاج المحلي وتشجيع الاستثمارات في هذا المجال، مما يسهم في تحقيق الأمن الصحي والاستقلالية الدوائية.
ترشيد الاستهلاك مسؤولية جماعية..
في ختام الندوة، أكد المشاركون على أن ترشيد الاستهلاك ليس مجرد سلوك فردي، بل هو مسؤولية جماعية تتطلب تضافر جهود الأفراد، المؤسسات، والحكومة. وأشاروا إلى أن التكنولوجيا والتوعية الإعلامية يمكن أن تلعب دورا محوريا في تحقيق استهلاك أكثر وعيا واستدامة، مما يساهم في الحفاظ على الموارد وتعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، معربين عن أملهم في أن تكون هذه الندوة خطوة نحو تعزيز ثقافة استهلاك رشيد يخدم المجتمع والاقتصاد الجزائري.
تغطية – محمد بوسلامة
