احتضن المركز الثقافي لجامع الجزائر، الخميس، ندوة دينية تحت عنوان “الشخص النبوي وآل بيته”، حيث تناول الحاضرون بالدراسة والتحليل قيم الرحمة، العفو، والشورى في القيادة النبوية، مستلهمين المعاني العميقة من قوله تعالى: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ” (آل عمران: 159).
الندوة، التي شهدت حضور نخبة من الدكاترة والأساتذة، كانت بمثابة وقفة تأملية في جوهر القيادة النبوية، التي استطاعت أن تجمع القلوب، وتؤسس لأمة قائمة على قيم التسامح والتعاون والمشاورة.
نور النبوة في رحاب جامع الجزائر..
استهل السيد ياسين بن عبيد، مدير المركز الثقافي لجامع الجزائر، اللقاء بكلمة ترحيبية، أكد فيها أن هذه السلسلة من الندوات تأتي في إطار تسليط الضوء على الشخصية النبوية، بعيدا عن الطرح السطحي أو التناول العاطفي المجرد، مشددا على ضرورة تقديم هذا الموضوع بلغة العصر، بما يضمن وصول رسالته إلى الجميع. وقال بن عبيد: “من نحن حتى نتحدث عن أخلاق النبي ﷺ؟ لكنه شرف لنا أن نتحلق حول هذا الموضوع المبارك، نحاول أن نقتبس من نوره، ونتعلم من هديه”.
أخلاق القيادة.. الرحمة والعفو والشورى كدعائم أساسية
في مداخلته، قدم الدكتور عبد الرحمن طيبي، قراءة تحليلية للآية الكريمة، مبينا أن القيادة النبوية قامت على ثلاثة مبادئ جوهرية أولها الرحمة، حيث كان لين النبي مع أصحابه من أعظم أسباب نجاح دعوته، مصداقا لقوله : “إنما بعثت رحمة للعالمين”. ثم انتقل إلى الحديث عن قيمة العفو والاستغفار كآلية لترسيخ وحدة الأمة، وهو ما جسده النبي في مواقف عديدة، أبرزها يوم فتح مكة عندما قال: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. كما تطرق الأستاذ إلى الشورى كأساس للحكم الإسلامي، حيث كان النبي يحرص على استشارة أصحابه، حتى في أدق الأمور العسكرية والسياسية. وأكد الدكتور طيبي، أن هذه القيم ليست مجرد نظريات تاريخية، بل هي منهج حياة يجب أن يطبقه الحكام، المسؤولون، الآباء، والمعلمون، لأن غيابها يؤدي إلى تفكك المجتمعات وانهيار العلاقات الإنسانية.
تطبيق القيم النبوية في واقعنا المعاصر..
أما الدكتور سليمان ولد خسال، فقد سلط الضوء على التحدي الأكبر، وهو تحويل القيم النبوية من مجرد حديث نظري إلى سلوك يومي، حيث قال: “التحدث عن أخلاق النبي أمر يسير، لكن التحدي الحقيقي هو تطبيقها في حياتنا. هل نحن فعلا نعامل أهلنا وأصدقاءنا وجيراننا كما كان النبي يعامل أصحابه؟” وأشار إلى أن الرحمة التي دعا إليها الإسلام لا تقتصر على التعامل بين الأفراد، بل يجب أن تسود في مختلف المؤسسات، سواء في الإدارة، القضاء، الإعلام، وحتى الحياة الزوجية. وضرب مثالا على ذلك بارتفاع نسب الطلاق بسبب غياب الحوار، وانعدام اللين، وهيمنة الفظاظة في التعامل بين الأزواج، معتبرا أن الآية الكريمة تقدم حلّا عمليا لمشاكل الأسرة والمجتمع، لأنها ترسخ قيم التسامح والتفاهم والتشاور.
رسالة من جامع الجزائر.. دعوة للعودة إلى الأخلاق النبوية
واختتمت الندوة، بدعوة الحاضرين إلى إحياء الأخلاق النبوية في مختلف مجالات الحياة، والتأكيد على أن التحدي الأكبر الذي يواجه الأمة اليوم ليس نقص الموارد أو تراجع الاقتصاد، بل أزمة أخلاقية تحتاج إلى علاج مستوحى من هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وفي هذا السياق، أكد الدكتور طيبي أن النجاح الحقيقي للأمم لا يقاس فقط بالقوة الاقتصادية أو التقدم التكنولوجي، بل بمدى التزامها بالقيم الأخلاقية، مستشهدا بقول النبي عليه الصلاة والسلام “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
المركز الثقافي لجامع الجزائر.. إشعاع علمي ودعوي مستمر
تأتي هذه الندوة، ضمن سلسلة من اللقاءات التي ينظمها جامع الجزائر، بهدف إعادة ربط الأجيال الحالية بالسيرة النبوية، من خلال تحليلها بطريقة علمية وعصرية، بعيدا عن الطرح التقليدي الذي يقتصر على السرد التاريخي دون إسقاطات عملية على الواقع.
ختاما.. وصية نبوية للأمة
واختتم الدكتور ولد خسال كلمته، برسالة مستمدة من السيرة النبوية، قائلا “نحن اليوم بحاجة إلى إعادة اكتشاف عظمة النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فقط في كلماته وخطبه، بل في مواقفه الحياتية. الرحمة ليست مجرد شعار، والعفو ليس ضعفا، والشورى ليست خيارا، بل هي ركائز أي مجتمع يريد أن يبني حضارة تدوم”.
تغطية – محمد بوسلامة