إِنَّ مَعْرَكَةَ حِطِّينَ وَمَا تَبِعَهَا مِنَ انْتِصَارَاتٍ وَفُتُوحَاتٍ، بِقَدْرِ مَا تَرَكَتْ مِنَ الرَّهْبَةِ وَالهَيْبَةِ فِي قُلُوبِ الصَّلِيبِيِّينَ، تَرَكَتْ كَذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ إِعْجَابًا كَبِيرًا بِنُبْلِ المُسْلِمِينَ وَشَهَامَتِهِمْ، وَخَاصَّةَ بتَسَامُحِ وَحُسْنِ مُعَامَلَةِ القَائِدِ صَلَاحِ الدِّينِ الأَيُّوبِيِّ وَجَيْشِهِ مَعَ الأَسْرَى وَزَوْجَاتِ الصَّلِيبِيِّينَ وَبنَاتِهم، مِمَّا جَعَلَ العَدِيدَ مِنَ المُدُنِ وَالحُصُونِ تَسْتَسْلِمُ دُونَ مُقَاوَمَةٍ تُذْكَرُ، وَبِفَضْلِ هَذِهِ السَّجَايَا مَارَسَتْ جُيُوشُهُ ضَبْطَ النَّفْسِ عِنْدَمَا انْتَصَرَتْ عَلَى الصَّلِيبِيِّينَ، وَتَجَنَّبَتْ ارْتِكَابَ الأَعْمَالِ الوَحْشِيَّةِ بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَتْ مِنْهُمْ، عَلَى عَكْسِ مَا يَفْعَلُهُ الصُّهَايِنَةُ اليومَ ضِدَّ إِخْوَانِنَا فِي غَزَّةَ وَفِلَسْطِينَ، مِنْ بطشٍ، وترويعٍ، وتجويعٍ، وتَدْمِيرٍ، وَتَهْجِيرٍ، وَسَفْكٍ لِلْدِّمَاءِ، حَتَّى وَصَلَ بِهِمُ الأمرُ إلى أَنْ يَحْرِقُوا الأَبْرِيَاءَ العُزَّلَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، مَا أَعْظَمَ الإِسْلَامَ، وَمَا أَقْبَحَ الظُّلْمَ وَالعُدْوَانَ. إنّنا نشعُرُ اليوم بأَلَم يعتصِرُ قلوبَنَا اعتصَارًا، لما يَقَعُ لإخوانِنَا في فلسطينَ، حيث أطنَانٌ من القَنَابِلِ المحرَّمَةِ دولِيًّا تُلْقَى على قِطَاعِ غَزَّةَ، ومئاتُ الأسَرِ أبيدَتْ عن آخرِهَا، وعشراتُ الآلافِ من الشّهدَاءِ، وتدميرٌ كاملٌ للبُنَى التَّحْتِيَّةِ، والعالمُ يتفرَّجُ علىما يجري على أرض الإسراءِ والمعراجِ وكأنّ الأمر لا يعنيه!. إِنَّ مَعْرَكَةَ حِطِّينَ شَاهِدَةٌ عَلَى العَلَاقَةِ القَوِيَّةِ بَيْنَ الجَزَائِرِ وَفِلَسْطِينَ، لِأَنَّ جَيْشَ المَغْرِبِ الأَوْسَطِ، أي الجَزَائِرِ حَالِيًا، كَانَ من أَوَائِلِ مَنْ لَبَّى نِدَاءَ الجِهَادِ، عِندَمَا صَدَحَتْ بِهِ المَآذِنُ بحيَّ على الجهادِ، جَيْشٌ يَقُودُهُ الوَلِيُّ الصَّالِحُ والعَالِمُ الفَقِيهُ العابدُ أَبُو مَدِينَ شُعَيْبٌ الغوث، دفينُ تِلِمسانَ، وَمُعْظَمُ أَفْرَادِ جَيْشِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَطَلَبَتِهِ الَّذِينَ يَدْرُسُونَ عِنْدَهُ بِبَجَايَةَ، هَذَا الجَيْشُ الَّذِي أَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا، وَأَظْهَرَ بَأْسًا شَدِيدًا إِلَى جَانِبِ صَلَاحِ الدِّينِ، فِي جِهَادِ الصَّلِيبِيِّينَ وَفِي تَحْقِيقِ الانْتِصَارِ بِمَعْرَكَةِ حِطِّينَ. وَكَانَ مِنْ نَتَائِجِ هَذَا الدَّوْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي قَامَ بِهِ أَبُو مَدِينَ شُعَيْبٌ مَعَ أَتْبَاعِهِ وَطَلَبَتِهِ، أَنَّ قَرَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ الأَيْوبِيُّ مُكَافَأَتَهُمْ بِأَوْقَافٍ كَبِيرَةٍ مِنَ النَّاحِيَةِ الغَرْبِيَّةِ لِلْمَسْجِدِ الأَقْصَى المُلَاصِقَةِ لِحَائِطِ البُرَاقِ، رَجَاءَ بَقَائِهِمْ فِي القُدْسِ، حَتَّى يَكُونُوا سَدًّا مَنِيعًا فِي وَجْهِ الصَّلِيبِيِّينَ إِذَا مَا فَكَّرُوا في مَعَاوَدَةِ الهُجُومِ عَلَى القُدْسِ مَرَّةً أُخْرَى، وَفِعْلًا اسْتَقَرُّوا وَتَجَذَّرُوا فِي هَذَا المَكَانِ، حَتَّى سُمِّيَ الحَيُّ بِحَيِّ المَغَارِبَةِ، وبابُ المسجِدِ الأقصى من ناحيتِهِمْ بِبَابِ الْمَغَارِبَةِ، وهم أجدادُكُمْ أيّها المؤمنون والمؤمنات، وَبَقِيَتْ يَدُ الوَلِيِّ الصَّالِحِ أَبِي مَدِينَ مَدْفُونَةً هُنَاكَ بَعْدَ أَنْ قُطِعَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهو يدافعُ عن دينِ اللّهِ ويحمي العرضَ، وَلَا تَزَالُ يَدُ الجَزَائِرِيِّينَ مَمْدُودَةً إِلَى الشَّعْبِ الْفِلِسْطِينِيِّ، ثَابِتَةً عَلَى عَهْدِ الأَسْلَافِ، لَا تَبْدِيلَ وَلَا تَغْيِيرَ، حَتَّى تَعُودَ القُدْسُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى حَاضِنَةِ الإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ.
الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر