مولودية الجزائر…. دور فعال في نمو الحركة الوطنية داخل الدوائر الرياضية

مولودية الجزائر…. دور فعال في نمو الحركة الوطنية داخل الدوائر الرياضية

كان استعمار الفرنسيين للجزائر استعمارا استيطانيًّا قسَّم البلد إلى مُجتمعَين منفصِلَين؛ مجتمع أوروبي احتل الأرض، ومجتمع مُسلِم من الدرجة الثانية رغم أنه صاحب الأرض.

وانعكس هذا الانقسام على كرة القدم أيضا، إذ تعرَّضت النوادي الرياضية المُسلِمة في الجزائر لضغوطات عديدة من طرف السلطات الفرنسية، إما بالمنع أو سحب التراخيص، وإما بالقمع والاعتداء.

ففي عام 1956 لعب نادي “مولودية الجزائر” مباراة ضد غريمه نادي “سان أوجن” (Saint Eugene) الفرنسي – الجزائري على ملعب “سان أوجن”، والمعروف اليوم بملعب “عُمر حمَّادي” ببلدية “بولوغين” (وحمَّادي قائد سابق للفريق ومن ثوَّار الجزائر الذين أعدمتهم سُلطات الاستعمار). وبعد أن عدَّلت “مولودية الجزائر” النتيجة في آخر دقائق المباراة، وهَتفَت جماهير المولودية فرحا، رأى الفرنسيون في ذلك استفزازا لهم. فلم يكن تعديل النتيجة انتصارا رياضيا فحسب، بل انتصارا معنويا للجزائريين كذلك، لا سيما أن المباراة لُعِبَت أثناء حرب التحرير بين عامَيْ 1954-1962.

ولذا، هاجمت الجماهير الأوروبية الحضور الجزائري وتدخَّلت الشرطة، فألقت القبض على العديد من أنصار المولودية وزجَّت بهم في السجون.

كانت الأندية المسلمة ظاهرة جديدة في البلد، إذ انحصرت كُرة القدم بين الفرنسيين وحدهم حتى نهاية القرن التاسع عشر، حيث تأسست أندية مثل نادي “أفراح وهران” (Club des Joyeusetés d’Oran) عام 1894، ونادي “حرية وهران” الرياضي (Club Athlétique Liberté d’Oran) عام 1897 من طرف المستوطنين الأوروبيين. وكانت هذه الأندية من أوائل أندية كرة القدم على الصعيد العربي والإفريقي، ثمَّ تلتها نوادٍ أخرى في شتى مدن الجزائر ذات الحضور الأوروبي، مثل الجزائر وقسنطينة وعنابة.

وانتظر الجزائريون حتى عشرينيات القرن العشرين لتأسيس نادٍ خاص بهم، وعُدَّ نادي “مولودية الجزائر” أول نادٍ جزائري مُسلِم لحظة تأسيسه في أوت 1921. وقد اجتمع حينها “عبد الرحمن عوف” رفقة أصحابه في حي القصبة (الحي الذي قطنه أهل مدينة الجزائر بعيدا عن المستوطنين الأوروبيين)، وكان الهدف من الاجتماع تأسيس أول نادي كرة قدم مُسلِم في الجزائر. واقترح الحاضرون للاجتماع أسماء عديدة للنادي، على غرار البرق الرياضي الجزائري، والهلال الجزائري، والنجم الرياضي، والشبيبة الرياضية، وقد وجدوا صعوبة في اختيار الاسم المناسب، وفي لحظة لم يتوقَّعها أحد صعد صوت من داخل المقهى من شخص مجهول مُناديا “مولودية” نسبة إلى المولد النبوي الشريف الموافق لذلك اليوم، وهي التسمية التي لاقت تجاوبَ هؤلاء الشبان، فاتُّفِقَ عليها اسما للفريق، وبعدها اختيرت ألوان العلم الوطني ألوانا رسمية للفريق.

ساهمت نشأة نادي “مولودية الجزائر” في نمو الحركة الوطنية داخل الدوائر الرياضية، وتعزيز الهوية المُسلِمة التي طالما حاربتها السلطات الفرنسية منذ بدء الاحتلال. وتزامن تأسيس الأندية الجزائرية في العشرينيات، مثل “النادي الرياضي القسنطيني”، و”الاتحاد الرياضي الإسلامي لوهران”، و”اتحاد الجزائر”، وغيرها من الأندية المسلمة حديثة النشأة، مع تأسيس حزب “نجم شمال إفريقيا” برئاسة “مصالي الحاج” سنة 1926، وهو أول حركة سياسية مُنظَّمة دعت إلى الاستقلال الكامل للجزائر. وقد لعبت هذه الحركة، والحركات السياسية الأخرى التي تلتها، دورا بارزا في تطوير الوعي السياسي لدى الشبيبة الجزائرية، وخاصة مع بروز المد الثوري وحركات التحرر، التي بدأت تؤتي ثمارها باستقلال دول العالم الثالث عن قبضة الاستعمار الغربي الغاشم.

وكان على رأس الفريق “بابا حمود” الذي تبرع بجزء من إرثه الذي سلمته له خالته المقدر بـ 150 ألف فرنك فرنسي، وبتلك الأموال اشترى الألبسة والمستلزمات الكروية، وفي سنة 1922 جنّد عبد الرحمن عوف عسكريًا وأرسلته فرنسا إلى ألمانيا خلال الحرب، ليتم تعليق أنشطة النادي بسبب عدم دفع حقوق الاشتراك، وبعد عودته عاد نشاط النادي مجدّدًا.

وقد كان ميلاد نادي مولودية الجزائر تظاهرًا وتعبيرًا انتمائيًا إلى الهوية والشخصية الجزائرية والمسلمة، حيث ضمنت المادة الثانية من قانون الجمعية أن الجمعية تهدف إلى جمع الشباب المسلم الراغبين في ممارسة الرياضة، وهذا ما يميز نادي مولودية الجزائر عن باقي الفرق الرياضية التي أسسها مستوطنون أوروبيون رغم أنها كانت تضم لاعبين جزائريين، إذ أن باقي الفرق لم تكن تحمل لونًا إيديولوجيا أو هوياتيًا ووطنيًا.

وبدأ تخوف الإدارة الاستعمارية يطفو إلى السطح، وتفطنت إلى أن للنادي الرياضي الجزائري الذي شكل الحس الوطني والمقاومة السلمية أبعاده الخفية، فقد أصدرت الإدارة الاستعمارية سنة 1928 تعليمة تنص على منع اللقاءات الكروية بين الفرق المسلمة والفرق الأوروبية، تفاديًا لشحن الخطاب والشعارات الاستقلالية في الملاعب، لكن القرار لم يطبق فعليًا، واستطاعت الفرق الرياضية تشكيل بطولة مزدوجة تضم النوادي الجزائرية المسلمة والأوروبية.

وكان فوز المولودية على فريق من الأقدام السود الأكثر تطرفًا ورجعية، والصعود إلى القسم الشرفي أحدث هزة سياسية وهبة وطنية، وأسقط الكثير من المسلّمات عن التفوق الأوروبي، وباشر أعضاء من الحركة الوطنية من مختلف مناطق الوطن رفقة مسيري المولودية من أجل فتح نوادي رياضية كروية ورياضية أخرى، وبات اللاعبون الجزائريون المميزون يختارون اللعب لصالح الفرق الجزائرية المسلمة بدل الفرق الفرنسية.

وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية ومجازر 8 ماي 1945 التي ارتكبتها السلطات الاستعمارية في الجزائر، وقُتل أثناءها أكثر من 45 ألف جزائري في أيام قليلة، خرج الجزائريون مطالبين بالاستقلال، وتصاعد الضغط على مدار سنوات إلى أن أعلنت جبهة التحرير الوطني اندلاع ثورة التحرير الكبرى في 1 نوفمبر 1954. وقد أوقفت الأندية الجزائرية المُسلِمة حينئذ جميع أنشطتها، وانضم العديد من لاعبيها إلى جيش التحرير، فحملوا البنادق وسلكوا سبيل الكفاح المُسلَّح.

ب\ص

Aucune description de photo disponible.