موسم “الغضبة “بأدرار …عادة قديمة تجسد معاني الحوار وترسخ قيم التسامح

elmaouid

تعد تظاهرة “موسم الغضبة ” التي تقام سنويا بإقليم تيديكلت شرق ولاية أدرار من أهم  العادات التراثية العريقة التي تبرز مدى تجذر ثقافة التآخي والتسامح وحل الخلافات بالحوار بين المتخاصمين بولاية أدرار .

 

“هجرة الغضب “السلمية ..تاريخ القصة وموطنها

وتعود هذه العادة الاجتماعية إلى قرون خلت  ومصدرها قصة خلاف اجتماعي  عندما عبرت الفئة الشغيلة في مدينة تيط الواقعة بهذا الإقليم عن تذمرها من الظروف الصعبة التي كانت تزاول فيها أشغالها المختلفة بحكم الأوضاع الاجتماعية الصعبة التي كانت تعاني منها في تلك الفترة.

ونظرا لعدم تلقي أي استجابة أو اهتمام من طرف أصحاب البساتين الذين كان هؤلاء العمال يشتغلون لفائدتهم،  عمدوا إلى القيام بهجرة جماعية من ورشات وبساتين هذه المدينة، متوجهين في مسيرة غضب موحدة نحو قصور مدينة أقبلي المجاورة ليشتكوا لأعيانها من وضعهم المزري، حيث استقر بهم المقام بقصر المنصور ببلدية أقبلي الذي مكثوا في ضيافة سكانه خمسة أيام بلياليها، يضيف السيد مفتاحي.

وقد حملت “هجرة الغضب” السلمية أعيان سكان قصر المنصور على اتخاذ كل التدابير والوسائل لفض هذا الخلاف  وإعادة الاعتبار لتلك الطبقة الشغيلة، حيث تنقلوا رفقة العمال الغاضبين إلى مدينة تيط  التي التقوا فيها بوجهائها وأعيانها الذين كانوا بدورهم في انتظارهم عند مداخل المدينة في خطوة تعبر عن ندمهم ورغبتهم في رجوع الشغالين وعودة أجواء الحياة العادية للمدينة ونشاطاتها.

وبعد تفاوض وتشاور  تم التوصل إلى حل توافقي يرضي الطرفين، وتليت فاتحة القرآن العظيم لترضية النفوس وتهدئتها، وتم استدعاء العمال للرجوع إلى مدينة تيط  بعد أن قاموا بالمبيت على مشارفها في انتظار الدخول إليها في وضح النهار.

وجرى استقبال هؤلاء العمال في جو احتفالي وأخوي ومشهد متأجج بمشاعر “الحسرة” و”الندم” التي كانت تطغى على أصحاب البساتين.

وقد حرص أعيان وسكان مدينة تيط في خضم هذا المشهد الأخوي والتضامني على استضافة سكان قصر المنصور من بلدية أقبلي ومكوثهم بمدينة تيط لمدة خمسة أيام نظير إسهامهم الكبير بالحكمة والتبصر في فض هذا النزاع وزرع  أواصر الأخوة والمحبة والتكافل بين سكان هذه المدينة.

 

زيارات سنوية لتخليد الذكرى وتجسيد معانيها

ومنذ تلك الفترة ولأجل استرجاع معاني هذه الحادثة الاجتماعية، كرس سكان المنطقة عادة سنوية تسمى “موسم الغضبة”،  يتم خلالها تنظيم زيارات سنوية متبادلة بين سكان مدينة تيط إلى قصر المنصور في شهر سبتمبر  وأخرى يقوم بها سكان قصر المنصور إلى مدينة تيط في شهر جوان، ويتم المكوث في المناسبتين خمسة أيام تقام فيها عدة أنشطة دينية وفلكلورية وثقافية ورياضية متنوعة.

وساهمت هذه العادة التراثية القديمة التي يحتفل بها في الوقت الحاضر بمنطقة تيدكلت، في إشاعة قيم التسامح وتوطيد أواصر التراحم والأخوة والمصاهرة بين سكان المنطقتين لما تحمله من أبعاد اجتماعية وثقافية وروحانية،  وتعكس مدى تشبث الإنسان بالحرية والعيش الكريم وحسه الواعي في تكريس مبدأ حل الخلافات الاجتماعية بالطرق السلمية بعيدا عن كل أشكال العنف  كما ذكر رئيس جمعية “الإخاء للتبادل الثقافي” بأدرار.

واعتبر بدوره الشيخ صباري الحاج ناجم، وهو من أعيان منطقة تيديكلت، أن هذه العادة التراثية اللامادية التي تعود إلى قرون خلت لازالت تشكل مصدر استلهام لسكان المنطقة لقيم التسامح والتآخي  وهي المعاني السامية التي لا زالت متجذرة في الحياة الاجتماعية المشتركة التي لا يتميز بها سكان التيديكلت فحسب  بل سائر سكان المنطقة.

ومن جانبه حث السيد مفتاحي الحاج لحسن، أحد وجهاء بلدية أقبلي، شباب المنطقة على ضرورة المحافظة على هذه العادة الاجتماعية المتوارثة من خلال تحقيق التواصل مع تراث الأجداد وجعله ميراثا للأحفاد.

كما دعا في الوقت ذاته إلى منح هذه التظاهرة التراثية الدعم المادي “اللازم” من طرف الجهات المعنية بما يسمح للقائمين عليها من تنظيم مختلف الأنشطة التي تصاحبها  حتى تأخذ أبعادها الدينية والسياحية في ظل توافد عدد لافت من سكان إقليم تيديكلت للاستمتاع بطقوسها المتميزة.

ومن جهتها شرعت مصالح الحظيرة الثقافية توات قورارة تيديكلت في جمع الشهادات الحية لمن عايشوا هذه العادة التراثية المتجذرة في تاريخ سكان إقليم تيديكلت إلى جانب إنجاز وسائط معلوماتية مسموعة ومكتوبة ومرئية قصد إتاحة الفرصة أمام الباحثين والطلبة للاستفادة منها في إعداد بحوثهم الأكاديمية المتعلقة بتراث المنطقة، كما أوضح من جانبه مدير ديوان الحظيرة حمودي محمد.