-
إجماع أممي يجدد الاعتراف بحق الفلسطينيين في دولتهم المستقلة
-
142صوتا يمنح القيادة الفلسطينية سندا دبلوماسيا قويا
-
إعلان نيويورك يوجّه ضربة لمسار التطبيع المنفرد
في لحظة وُصفت بأنها “انتصار دبلوماسي نادر” و”صرخة ضمير عالمية”، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان نيويورك بشأن الحل السلمي للقضية الفلسطينية وتنفيذ حلّ الدولتين، بعدما صوّتت لصالحه 142 دولة مقابل 10 فقط عارضت و12 امتنعت.
هذا الإجماع الدولي الواسع يُقرأ كتحوّل سياسي عميق يعيد الاعتبار لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ويكشف في المقابل حجم العزلة التي بات يعيشها الكيان الصهيوني على الساحة الأممية. هكذا يعود ملف فلسطين، الذي حاولت قوى دولية تهميشه عبر مسارات “التطبيع والتسويات الوهمية”، إلى صدارة المشهد الدولي بقوة الشرعية الأممية، فاتحا الباب أمام مرحلة جديدة من الضغط السياسي والقانوني قد تُغيّر معادلات المنطقة برمتها.
تجديد الاعتراف بحق الفلسطينيين
شكّل التصويت الكاسح داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث أيدت 142 دولة إعلان نيويورك، تجديدا واضحا وصريحا للشرعية الدولية التي تقرّ بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة على حدود الرابع من جوان 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. هذا الإجماع يعد رسالة قوية إلى العالم مفادها أن القضية الفلسطينية ما تزال “قضية عادلة لا تسقط بالتقادم”، وأن المجتمع الدولي، رغم كل محاولات التهميش، يظل متمسكًا بالمرجعيات الأساسية للحل. ويكتسي هذا الاعتراف الدولي أهمية قصوى في وقت تحاول فيه بعض القوى فرض حلول بديلة عبر التطبيع أو القفز على الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني. فإن تعلن الأمم المتحدة موقفًا جماعيًا بهذا الحجم، يعني أن الشرعية الدولية ما زالت تقف إلى جانب الفلسطينيين، وأن مبدأ “لا سلام دون دولة فلسطينية مستقلة” بات قاعدة لا يمكن الالتفاف عليها بسهولة. كما أن هذا الموقف الأممي يُعيد شيئا من الثقة للشعب الفلسطيني الذي عانى لعقود من محاولات فرض الأمر الواقع بالقوة، ويمنحه دعما سياسيا ومعنويا لمواصلة نضاله على مختلف الأصعدة. فالاعتراف هو خطوة نحو إعادة رسم معالم القضية الفلسطينية في الأذهان والضمير العالمي، بما يفتح آفاقًا جديدة لتحويل الوعود إلى واقع ملموس.
“إسرائيل” في مواجهة العزلة الدبلوماسية
اللافت في التصويت على “إعلان نيويورك” أن 10 دول فقط اختارت الاصطفاف خلف إسرائيل، في مقابل 142 دولة دعمت حق الفلسطينيين. هذا التباين الرقمي يترجم حالة العزلة التي يعيشها الكيان الصهيوني داخل المحافل الأممية، ويكشف أن الخطاب الإسرائيلي القائم على “الأمن المزعوم” لم يعد يجد آذانًا صاغية كما في السابق. فالتأييد شبه الكاسح للقرار يعكس تحوّلا في ميزان الشرعية الدولية، حيث لم يعد الاحتلال قادرا على تسويق روايته بنفس القوة. هذه العزلة المتنامية تضع تل أبيب أمام ضغط سياسي متصاعد، إذ أن استمرارها في سياسات التوسع والاستيطان أصبح مرفوضًا من قبل غالبية الدول، بما في ذلك بعض القوى التي كانت تلتزم الصمت أو الحياد سابقًا. ومع كل جولة تصويت، تتضح معالم التراجع التدريجي للدعم الدولي غير المشروط الذي طالما اعتمدت عليه إسرائيل. ومع أن بعض القوى الكبرى لا تزال تساند الاحتلال، فإن “الرقم الرمزي” لعدد الدول المعارضة يرسل إشارة إلى أن إسرائيل لم تعد تملك غطاءً دوليًا كافيًا لممارساتها. وهذا الواقع قد يدفعها مستقبلًا إلى مراجعة حساباتها في التعامل مع الملف الفلسطيني، أو على الأقل يضاعف من صعوبة ترويج سياساتها القمعية دون مواجهة موجات استنكار وضغط دولي.
تعزيز الموقف الفلسطيني في المحافل الدولية
إقرار “إعلان نيويورك” منح الفلسطينيين سندًا دبلوماسيًا قويًا يمكنهم الاعتماد عليه في مواجهة محاولات التهميش والإقصاء. فالاعتراف الأممي الواسع يعزز من مشروعية مطالبهم، ويعيد التأكيد على أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة ليست خيارًا سياسيًا بل حقًا أصيلًا كفلته القرارات الدولية. هذا الزخم يمنح القيادة الفلسطينية ورقة ضغط إضافية في كل محفل، ويُصعّب على الأطراف المعادية إنكار حقوق شعب لا يزال يناضل من أجل حريته. إلى جانب البعد الرمزي، فإن الإعلان يشكّل أرضية صلبة للخطاب الفلسطيني داخل الأمم المتحدة ومختلف المنظمات الدولية. فحين يتحدث المفاوض الفلسطيني عن “إجماع 142 دولة” إلى جانبه، فإنه لا يعبّر عن مطلب محلي فحسب، بل يترجم إرادة عالمية واسعة تدعم استعادة الحقوق. هذا الدعم يتيح للجانب الفلسطيني الدخول إلى أي طاولة مفاوضات من موقع قوة، ويمنحه قدرة أكبر على مواجهة الضغوط التي تسعى لفرض حلول مجحفة. كما أنّ الاعتراف الدولي يوفّر للفلسطينيين إطارًا جامعًا لإعادة بناء وحدتهم الداخلية. فإجماع العالم على حلّ الدولتين يعيد إحياء الأمل في أن المسار السياسي قد يحمل ثمارًا ملموسة، ما يدفع الفصائل الفلسطينية إلى تعزيز التوافق فيما بينها. وهو ما يعيد إلى الأذهان “اتفاق الجزائر 2022” الذي مثّل محطة أساسية في مسار المصالحة، ويؤكد أن الدعم الدولي لا يكتمل إلا بتماسك البيت الفلسطيني من الداخل.
ضربة لمسار التطبيع المنفرد
اعتماد “إعلان نيويورك” جاء كصفعة دبلوماسية قوية لمحاولات فرض مسار التطبيع كبديل عن الحل العادل والشامل. فحين تُجمع 142 دولة على أن الحل لا يكون إلا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، فإنها عمليًا تُبطل الحجة التي اعتمدت عليها بعض الأطراف لتبرير هرولتها نحو التطبيع مع الاحتلال، متجاوزة القضية الأم ومطالب الشعب الفلسطيني المشروعة. هذا الإجماع الدولي يوضح أن المجتمع الدولي لا يعترف بأي حلول جزئية أو صفقات منفردة. هذا التوجه الأممي يُعيد التذكير بأن “الشرعية لا تُجزأ”، وأن أي محاولة لعقد اتفاقيات خارج الإطار الفلسطيني الجامع لا تملك شرعية حقيقية ولا ضمانات للاستمرارية. فالتطبيع دون حل جذري للقضية لن يؤدي إلا إلى تعميق الهوة بين الشعوب العربية وحكوماتها، ويكشف عن التناقض الصارخ بين المواقف الرسمية والسياسات الشعبية المتجذرة في دعم فلسطين. كما أنّ إعلان نيويورك يُعطي زخماً لمواقف الدول الرافضة للتطبيع وعلى رأسها الجزائر، التي طالما حذرت من أن “التسويات الهشة لا تبني سلامًا، بل تمنح الاحتلال مزيدًا من الوقت لمصادرة الحقوق”. ومن هنا يصبح الإعلان بمثابة وثيقة مرجعية تُعيد ضبط البوصلة، وتُحاصر محاولات تذويب القضية الفلسطينية في مشاريع إقليمية لا تخدم سوى الاحتلال وحلفائه.
نحو قرارات أممية أكثر إلزامية
اعتماد “إعلان نيويورك” داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة لا يعني أن المعركة انتهت، بل هو خطوة أولى نحو مسار أشمل يهدف إلى تحويل هذا الإعلان إلى قرارات أممية ملزِمة. فالجمعية العامة، رغم وزنها الرمزي الكبير، تفتقر إلى القوة التنفيذية، بينما يبقى مجلس الأمن هو الجهة المخوّلة بإصدار القرارات القابلة للتنفيذ على أرض الواقع. وهذا ما يجعل المرحلة المقبلة مرتبطة بالقدرة على نقل الإجماع الواسع داخل الجمعية إلى مواقف عملية داخل المجلس. غير أن هذا المسار لن يكون سهلاً، إذ يظلّ الفيتو الأميركي العقبة الأكبر أمام أي محاولة لإصدار قرار يُلزم إسرائيل بوقف الاستيطان أو يفرض آليات زمنية لتجسيد حلّ الدولتين. الولايات المتحدة، بحكم تحالفها الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني، اعتادت تعطيل كل القرارات التي تمس مصالحه، ما يضع المجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي: هل سيبقى صامتًا أمام عرقلة مسار السلام، أم سيبحث عن بدائل لتجسيد الشرعية الدولية؟ رغم هذه التحديات، فإن الرقم 142 يُعدّ رصيدًا يمكن البناء عليه لتوسيع التحالفات الداعمة لفلسطين، عبر تعبئة الرأي العام العالمي وتعزيز الضغوط على القوى التي تعرقل القرارات الأممية. وإذا ما استُثمر هذا الزخم في حشد دعم داخل مجلس الأمن، فقد يتحول إعلان نيويورك إلى نقطة انطلاق نحو قرار ملزم يغيّر ميزان القوى ويفتح الطريق أمام تسوية عادلة وشاملة.
عودة القضية الفلسطينية إلى واجهة العالم
وبعد سنوات من انشغال المجتمع الدولي بأزمات متلاحقة، من الحروب في أوكرانيا إلى التوترات في آسيا وأفريقيا، جاء إعلان نيويورك ليعيد القضية الفلسطينية إلى دائرة الضوء من جديد. فالإجماع الأممي الواسع أعاد تسليط الأضواء على “القضية التي حاول البعض طمسها”، مؤكدًا أن فلسطين لا تزال في قلب الأجندة العالمية رغم كل المحاولات لعزلها أو إبعادها عن الاهتمام الدولي. هذا الحضور المتجدد على الساحة الأممية يفتح نافذة أمل للفلسطينيين الذين شعروا في السنوات الأخيرة أن قضيتهم بدأت تفقد بريقها لصالح قضايا أخرى. واليوم، بفضل هذا الإعلان، يتجدد النقاش في العواصم الكبرى، ويُستعاد الحديث عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني كمدخل لا غنى عنه لإحلال السلام العادل والدائم في المنطقة. كما أن هذا الزخم الدولي يعيد إحياء الحركات التضامنية الشعبية حول العالم، ويمنحها شرعية أكبر في مواجهة الدعاية الصهيونية. فحين يجد المواطن العادي أن غالبية دول العالم تقف مع فلسطين، يتعزز وعيه بعدالة هذه القضية، وتزداد مساحات التضامن الشعبي والسياسي والإعلامي، ما يشكّل رافعة جديدة في معركة الرأي العام الدولي.
البُعد القانوني.. رافعة للنضال الفلسطيني
ويأتي “إعلان نيويورك” ليُثبت مرة أخرى أنّ القضية الفلسطينية ليست مجرد ملف سياسي يُدار بالمساومات، وإنما هي قضية قانونية بامتياز ترتبط بقرارات الشرعية الدولية التي تنص بوضوح على حق الفلسطينيين في تقرير المصير. إن وضع الإعلان تحت مظلة الأمم المتحدة يضفي عليه ثقلاً قانونيًا ومعنويًا، ويضع الاحتلال أمام مسؤولياته الدولية التي حاول مرارًا التنصّل منها. هذا الاعتراف القانوني يفتح أمام الفلسطينيين مساحات أوسع للتحرك القضائي والدبلوماسي، سواء عبر محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية، ما يعزز إمكانية ملاحقة جرائم الاحتلال وممارساته الاستيطانية التي تتعارض مع القانون الدولي الإنساني. فالعالم اليوم يعترف ضمنيًا بأن استمرار الاحتلال هو خرق للقانون، وهذه ورقة ضغط لا يمكن الاستهانة بها. إلى جانب ذلك، يوفّر الإعلان فرصة للفلسطينيين وللدول الداعمة لهم، مثل الجزائر، من أجل إعادة بناء جبهة قانونية دولية تتبنى خطاب الحقوق غير القابلة للتصرف، وتذكّر بأن “الشرعية الدولية ليست وجهة نظر”، بل التزام يجب أن يترجم على الأرض. ومن هنا، يصبح البعد القانوني أداة استراتيجية توازي العمل المقاوم على الأرض، وتمنح القضية الفلسطينية بعدًا عالميًا لا يمكن تجاوزه أو إسكات صوته. المصادقة على “إعلان نيويورك بشأن الحل السلمي للقضية الفلسطينية” هي بداية لمرحلة جديدة من الحراك الدبلوماسي والسياسي، تُعيد وضع فلسطين في صدارة الاهتمام العالمي وتُرسّخ أن “لا سلام بلا عدالة، ولا عدالة بلا دولة فلسطينية مستقلة”. صحيح أنّ تحديات التطبيق تبقى قائمة، في ظل “فيتو” القوى الكبرى ودعمها اللامشروط للاحتلال، غير أنّ الإجماع الأممي بـ142 صوتًا يعبّر عن إرادة دولية آخذة في التبلور ضد سياسة فرض الأمر الواقع، ويمثل وثيقة يمكن البناء عليها لمراكمة الضغوط وإحياء مسار الشرعية الدولية. وبين عزلة إسرائيل المتزايدة، وتنامي التضامن الشعبي مع فلسطين، يتأكد أن القضية، رغم كل محاولات التغييب، ما زالت حيّة في وجدان الشعوب وموضوعة على طاولة الأمم، بانتظار لحظة تترجم فيها الكلمات إلى أفعال والقرارات إلى واقع.