من عجائب الحوقلة

من عجائب الحوقلة

حتى يَحصلَ أثرُ الحوقلةِ في تذليلِ الصعابِ؛ فإنه لا بدَّ للعبدِ من العلمِ بمعناها، واليقينِ الجازمِ بمحتواها. فالحوقلةُ نفيٌ لأيِّ تحوِّلٍ من حالٍ إلى حالٍ، ونفيٌ لأيِّ قدرةٍ على ذلك التحوِّلِ إلا باللهِ العليِّ العظيمِ؛ ولذا كان لها تلك الحفاوةُ الربانيةُ والمددُ الإلهيُّ؛ إذ كانت تجسيداً لتوحيدِ اللهِ قولاً وفعلاً وحالاً؛ بها التعلقُ التامُّ من العبدِ بربِّه، والتبرؤُ مما عداه كائناً مَن كان؛ وفيها إفرادُ اللهِ بالتدبيرِ والتعلقِ وحسنِ الظنِّ وكمالِ التوكلِ والثقةِ والتفويضِ والاستسلامِ، وفيها إظهارُ العبدِ عجزَه وضعفَه وفقرَه، وتبرؤَه مِن حَوْلِه ومن حولِ كلِّ مخلوقٍ مهما بلغتْ قوتُه، ونفيَه العُجْبَ عن نفْسِه، وقطْعَه الأملَ فيما عدا ربِّه؛ فهل مِثلُ هذا يَخذلُه أكرمُ الأكرمين؟! قال الخطابيُّ:” ومعنى كلمةِ “لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ” إظهارُ الفقرِ إلى اللهِ جلَّ وعزَّ، وطلبُ المعونةِ منه على كلِّ ما يُزاوِلُه من الأمورِ، وهو حقيقةُ العبوديةِ “. روى أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ” أَلَا أُعَلِّمُكَ – أَوْ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ – عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ؟ تَقُولُ: ‌لَا ‌حَوْلَ ‌وَلَا ‌قُوَّةَ ‌إِلَّا ‌بِاللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَسْلَمَ عَبْدِي ‌وَاسْتَسْلَمَ “رواه أحمدُ وصحَّحَه الحاكمُ.

قال ابنُ رجبٍ: ” وَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْخَلْقِ، فَلِأَنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِجَلْبِ مَصَالِحِهِ، وَدَفْعِ مَضَارِّهِ، وَلَا مُعِينَ لَهُ عَلَى مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ أَعَانَهُ اللَّهُ، فَهُوَ الْمُعَانُ، وَمَنْ خَذَلَهُ فَهُوَ الْمَخْذُولُ، وَهَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى قَوْلِ: ” لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ” فَإِنَّ الْمَعْنَى لَا تَحَوُّلَ لِلْعَبْدِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَلَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، فَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ فِي فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ كُلِّهَا فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ مِنْ أَهْوَالِ الْبَرْزَخِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ حَقَّقَ الِاسْتِعَانَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَعَانَهُ “. إنَّ لـلحوقلةِ خاصيةً عجيبةً في تيسيرِ العسيرِ ومعالجةِ الأمرِ الصعبِ، كما قررَ أهلُ العلمِ؛ قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةِ: “وَليكن ‌هِجِّيراه: “لَا ‌حول ‌وَلَا ‌قُوَّة ‌إِلَّا ‌بِاللَّه”؛ فَإِنَّهَا بهَا تُحملُ الأثقالُ، وتُكابدُ الْأَهْوَالُ، ويُنالُ رفيعُ الْأَحْوَال”، “وبها يَقتدرُ الإنسانُ على كلِّ فعلٍ”، ويقولُ ابنُ القيمِ: “وهذه الكلمةُ لها تأثيرٌ عجيبٌ في معالجةِ الأشغالِ الصعبةِ، وتحمّلِ المشاقِّ، وركوبِ الأهوالِ. ولها أيضاً تأثيرٌ في دفعِ الفقرِ”، وقال ابنُ عثيمينَ: “إذا أعْياك شيءٌ، وعجزتَ عنه؛ قل: لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ؛ فإنّ اللهَ يُعنيك عليه”. ومما استلهمَ العلماءُ به خاصيةَ الحوقلةِ في تذليلِ الصعابِ مشروعيةُ قولِها في إجابةِ المؤذنِ حين يَصْدَحُ منادياً لأعظمِ العباداتِ: “حيَّ على الصلاةِ، حيَّ على الفلاحِ “؛ إذ وصفَ اللهُ الصلاةَ بالمشقةِ والثِّقلِ بقولِه “وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ” البقرة: 45.

 

من موقع وزارة الشؤون الدينية