من ربوع بلادي : عاصمة التربة ومدينة الألف منبع للمياه  “ميلة”.. مملكة الجنان والمياه تبحث عن مجدها الضائع

من ربوع بلادي : عاصمة التربة ومدينة الألف منبع للمياه  “ميلة”.. مملكة الجنان والمياه تبحث عن مجدها الضائع

مدينة تبحث عن مجدها الضائع، واستعادة بريقها التاريخي، تعاقبت عليها الحضارات، تعرف بـ “جنان الشرق الجزائري”، كما حملت تسميات عديدة، فكل اسم يخلد الحضارة التي مرت عليها، حيث سكنها الأمازيغ فأطلقوا عليها اسم “أملو”، كما عرفت احتلال البيزنطيين ثم الرومان وفتحها المسلمون وصارت تسمى بمدينة القمح وبلد الجنان والراحة.

تعاقب الحضارات على المدينة الصغيرة، التي تبعد بـ 490 كيلومترًا، شرقي العاصمة الجزائرية، ساهم في تغيير اسمها من “أملو” إلى “ميليوس” ثم إلى “ملوفيثانا” وبعدها “ميلاف” ثم “ملاح”، وأخيرًا “ميلة” الاسم الذي تحافظ عليه ليومنا هذا، إلا أن مختلف المعالم الموجودة في قلب المدينة العتيقة تعرف الإهمال ويهددها الاندثار.

ميلة القديمة، مدينة ليست ككل المدن الجزائرية لخصوصيتها التاريخية، حيث يعتبرها الكثيرون عاصمة للرومان، لأنها حفرت في ذاكرة سكانها اسم “ميلاف” أي باللغة الرومانية، “مدينة الألف منبع للمياه العذبة”، التي تخرج من الجبال المجاورة لها.

تشكل ميلة هذه المدينة الساحرة موردا سياحيا لا مثيل له باعتبارها تحمل بصمات حضارية أثرت على تاريخ الجزائر، فيكفي أنها كانت شاهدة على تعاقب مختلف الحضارات كالرومانية والبيزنطية والوندالية، وصولا إلى الحضارة الإسلامية.. حملت ميلة العديد من الأسماء حيث سميت بـ ” ميلو” في العهد النوميدي نسبة إلى ملكة كانت تحكمها في العهد الروماني وتعني “الظل” في اللغة الأمازيغية، وفي عهد يوليوس قيصر سميت بـ “ميلاف” و تعني الأرض المسقية، كما حملت لقب “كولونيا”، وميلو تعني الظل في اللغة الأمازيغية، فبعد انحطاط الإمبراطورية الرومانية وانشقاقها زحف الوندال إلى بلد المغرب ومكثوا في الإقليم الشرقي حوالي قرن من الزمن واستولى البيزنطيون على المدينة عام 540 ميلادي فجعلوا منها قلعة تحت حكم القائد “سولومون” الذي قام ببناء سور محيط بالمدينة ودعمه بـ 14 برجا للمراقبة وضم أهم معالم المدينة الرومانية، وعام 674 ميلادي دخلها الصحابي الجليل أبو المهاجر دينار في عهد الفتوحات الإسلامية أين أقام بها أول مسجد، وهو الأول بالجزائر والثاني في المغرب العربي.

 

عيون للمياه العذبة

الداخل إلى مدينة ميلة من جهة الشرق الجزائري يمر عبر منافذ عديدة، فهي التي حملت بين جنباتها حضارة الأمازيغ ثم البيزنطيين وبعدهم الرومان، حيث تزخر المدينة بالعشرات من مصادر المياه واكتشفوا مصدرها الرئيسي في أعالي جبل “مارشو” أو جبل المياه العذبة حيث تسقي عيونه بساتين وأراضي المدينة ومنابع للمياه تمون مختلف المدن المجاورة لها.

وتحافظ المدينة القديمة على عينها الرئيسية، التي يطلق عليها السكان اسم “عين البلد”، لتربعها على موقع وسط المدينة العتيقة، ماؤها عذب وبارد جدًا. ويكشف سكان المدينة أن “من يشرب من هذه العين يعود دائمًا مرة أخرى لزيارة المدينة”، غير أن المثير في هذه العين أن كل الدراسات لم تتوصل بعد إلى منبعها الرئيسي ومجراها، وهي تحمل أيضًا اسم “العين الرومانية”.

غير بعيد عن “عين البلد”، وعلى بعد أمتار فقط، يحيط بالمدينة سور من حجارة ضخمة، يقود الزائر نحو مخرج يسمى بـ” باب البلد” وهو عبارة عن باب شيد بالحجارة، يعتبر المخرج والمدخل الرئيسي للمدينة العتيقة، حيث يشير أحد السكان إلى أن “المدينة كانت قبل سنوات طويلة تعج بالتجار وخصوصًا تجار الصوف والبقول الجافة الذين يأتونها من مختلف المدن المجاورة، فيما بقيت ليومنا هذا دكاكين ومحلات صغيرة، فضلًا عن مقاهي تعج بالزوار ليلاً”.

 

مدينة ضاربة في جذور تاريخ الإنسانية

ولاية ميلة.. مدينة ضاربة في جذور تاريخ الإنسانية تأسست سنة 256م ظهرت في القرن 13 الميلادي، سميت بأسماء كثيرة منها ميلاف ميليون وميدوس واسمها مشتق من اللاتينية بمعنى التفاح، تقع شمال قسنطينة على بعد 12 ميلا…أسسها الرومان وخضعت للوندال وسيطر عليها البزنطيون حتى عام  674 (55ه) دخلها المسلمون الفاتحون تحت قيادة الصحابي الجليل أبو مهاجر دينار الذي بنى فيها أول مسجد في الجزائر -سيدي غانم-.

وخلال القرن العاشر لعبت هذه الولاية دورا كبيرا في توطيد أسس الدولة الأغلبية، كما كانت نقطة انطلاق الخلافة الفاطمية وكانت تابعة إبان العهد العثماني لبايلك الشرق.

وقد سقطت مدينة ميلة في يد الإحتلال الفرنسي سنة 1837 وشهدت انتفاضات شعبية بين 1849و1866، وقد شارك سكانها في مظاهرات 8 ماي 1945 اعتقل منهم حوالي 600 مواطن، وقد انخرطت ميلة منذ الوهلة الأولى في عمل الحركة الوطنية سواء الإصلاحي أو النضالي المطالب باستقلال الجزائر، كما شكلت ميلة خلال الثورة التحريرية المباركة جزءا هاما من الولاية الثانية التاريخية، وساهمت في زعزعة أركان الإستعمار الغاشم ورفضت مشروعه الإحتوائي وقدمت أكثر من 5500 شهيد فداء للوطن.

كما جادت أرضها برجال وأبطال ساهموا في حركة الإصلاح، وثورة التحرير ومعركة البناء منهم الشيخ مبارك الميلي والشهيد علي زغدود والمجاهد المرحوم عبد الحفيظ بوصوف والمجاهد لخضر بن طوبال والدكتور منتوري…. وغيرهم، وتشهد اليوم ميلة ديناميكية بناء وتنمية في مختلف الجوانب الإجتماعية والإقتصادية، وتحتوي هذه الولاية على معالم وآثار شاهدة على حقب تاريخية مرت بها.

 

“قلعة تازروت”.. أول “دار للهجرة” بالجزائر

إن الحديث عن “ميلة” لا ينتهي، فمدينة بهذا التنوع والغنى لابد أنها جعلت محبيها يحرصون على زيارتها باستمرار، لأنهم في كل زيارة يكتشفون أماكن لم تكن معروفة لديهم من قبل ويعيشون في كل مرة أجواء جديدة ذات نكهة خاصة مفعمة بالفرح والحيوية. على غرار “قلعة تازروت” التي تعد أول “دار للهجرة” بالجزائر، فعلى علو 1.002 متر يقع كاف تازروت على بعد 7 كلم شمال غرب مقر بلدية عين ملوك بجنوب ولاية ميلة.هنا يسجل التاريخ حسب الأثري عمار نوارة مسؤول فرع ميلة للديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية بميلة وجود قلعة تازروت، وتعد أول “دار للهجرة” قبل إقجان “بني عزيز حاليا” بولاية سطيف للمذهب الإسماعيلي والتي أنشأها الداعية أبو عبد الله الفاطمي حين كان بصدد الدعوة بمناطق قبيلة كتامة التاريخية لإقامة الدولة الفاطمية التي رأت النور سنة 902 ميلادية. وما زال هذا الموقع الإستراتيجي الكائن بالقرب من مشتة عين بزاط، كما أضاف نفس الأثري، يحتفظ بالكثير من الشواهد و المعالم الأثرية متعددة الحضارات بدءا من حضارة ما قبل التاريخ ممثلة في صناعات حجرية بدائية إلى آثار رومانية “شديدة الأهمية” لاسيما منها تلك الكتابات المنقوشة على الصخر، والتي تروي قصة نبيلة رومانية ذات أصول بربرية تدعى أنطونينا ساتورنينا التي عاشت في القرن الأول الميلادي إبان حكم الإمبراطور أنطيونيوس التقي.

وإلى ذلك هناك أيضا مقبرتان رومانيتان وكذا فسيفساء بهذه القلعة (تازروت) التي تعني محليا اسما بربريا معناه “التل الصخري” كما تلقب بـ “المدينة” التي تدخل حسب السكان المحليين من باب مغارة . ويؤكد السيد نوارة أنها ما زالت تحظى بتقديم القرابين وتنظيم طقوس، مما يشكل دليلا على أهميتها التاريخية عند السكان. وفي هذا المكان ذي الطبيعة الجيولوجية الوعرة، تحصن الداعية الفاطمي لفترة من الزمن مدعوما من قبيلة كتامة التاريخية قبل أن يقرر الهجوم على مدينة ميلة غير البعيدة والتي كانت تعد آنذاك أول مدينة للحكم الأغلبي تسقط في يد الفاطميين الذين أنشأوا دولتهم بعد ذلك سنة 920 بالمهدية في تونس قبل أن تنتقل إلى مصر سنة 969 ميلادية، حيث شيدوا قاهرة المعز كما بنوا الأزهر الشريف مستندين إلى سواعد الكتاميين لتتسع حضارتهم إلى منطقة الشام بدءا من 971 ميلادية.

ومن دلائل أهمية موقع قلعة تازروت رغم أنها غير معروفة كثيرا، كما أفاد مسؤول ديوان تسيير الممتلكات الثقافية المحمية بميلة، أنه ورد ذكرها في كتاب “المسالك والممالك” لصاحبه الرحالة المعروف ابن حوقل.

ويتميز الموقع أسفل التل وبالتحديد داخل حديقة لأحد الخواص بوجود فسيفساء هندسية متعددة الألوان بتقنية المكعبات الصغيرة. وقد أكد صاحب تلك الحديقة أنه أثناء حفره لبئر عثر على حوض كبير بطول 5 أمتار وعرض 3 أمتار وعمق 1,50 تقريبا. وما تزال آثار قناة مياه بارزة في المكان، وهو ما يعطي احتمال وجود حمام روماني بالموقع. ويتوفر هذا الأخير أيضا على نقيشات وكتابات لاتينية عديدة منقوشة على الصخر هناك منها العديد من النقيشات الجنائزية التي يحتفظ بها السكان.

ويشير الأثريون أيضا إلى توفر معطيات تشير إلى وجود قرية رومانية تتربع على مساحة تزيد على 10 هكتارات وتقع في التلة المطلة على مشتة نعمون بحوالي 500 متر غرب كاف تازروت، وتحتوي على العديد من بقايا البنايات وقد نقل العديد من آثارها إلى المشتة حيث استعملت حجارتها في البناء.

ومن جهة أخرى تقع قناة مياه فخارية في الواد الفاصل بين كاف تازروت والقرية الرومانية، وهي قناة كشفت آثارها الفيضانات الموسمية لوادي الحجار الحمر وهي عبارة عن قناة من البلاطات الفخارية تصب في بئر تقع في أسفل التلة ومصدرها منبع مائي مازال مستعملا إلى يومنا ويدعى عين السطحة الصغيرة كما يؤكد السيد نوارة. ويعتبر هذا الأثر التاريخي الكبير ذا قيمة سياحية جديرة بالتثمين والتعريف، فضلا عن أهميته الحضارية والأثرية التي تستدعي الحماية والحفاظ. ويقول مهتمون بالشأن الثقافي بالمنطقة إن هذا المعلم يتطلب تصنيفه العاجل ضمن حظيرة الآثار والمعالم الوطنية الواجب حمايتها من عوامل الزمن والضياع والإهمال.

وتضم الولاية حاليا 7 مواقع أثرية مصنفة إلى جانب مواقع أخرى مقترحة للتصنيف كما هو الشأن بالنسبة لمدينة بوتخماتن الأثرية وآبار أغلاد ببلدية المشيرة وفسيفساء سيدي زروق ببلدية الرواشد وكذا آثار البعالة بوادي العثمانية. وتعد ولاية ميلة زهاء 600 معلم أثري متعدد الحضارات ما يدل على ثروة حقيقية يجدر الحفاظ عليها وصيانتها.

 

تمثـــــــــال ملــــــــــــــو ومسجد سيدي غانم

اكتشف هذا التمثال خلال تنقيبات 1880-1879 في المدينة القديمة لميلة، وهو تمثال لملكة بربرية حكمت ميلة قبل مجيء الرومان وكانت تسمى “ميلو”، ويوجد هذا التمثال حاليا بالثكنة الموازية لمسجد سيدي غانم بميلة القديمة الذي يعتبر معلما أثريا ودينيا آخرا يحكي تاريخ ميلة، ويعتبر مسجد سيدي غانم أقدم مسجد بني في الجزائر والثاني بالمغرب العربي بعد مسجد القيروان في تونس الشقيقة، اكتشف عام 1969 على أنقاض الكنيسة الرومانية، وقد أسس هذا المسجد من طرف الفاتح أبو المهاجر دينار إثر فتحه للمدينة سنة 59 هجرية الموافق لـ 678 ميلادية، وقد صنف مسجد سيدي غانم ضمن التراث الوطني سنة 1995 وهو يحظى حاليا بعملية ترميم واسعة للحفاظ عليه.

 

 

السجن الأحمر بفرجيوة…. معلم يحكي معاناة مجاهدي المنطقة

بني هذا السجن سنة 1952 بعد انتفاضة 8 ماي 1945 بقرار يحمل رقم 09 بتاريخ 13 ديسمبر 1946 على مساحة قدرت بــــــــــــــ 2000 م2 ويتكون من 29 غرفة وزنزانة للتعذيب والاستنطاق، وترجع تسميته إلى لون الرمل الذي بني به رغم أن العديد يرجع هذه التسمية إلى لون جدرانه التي لطخت بلون دماء المجاهدين أثناء التعذيب.

 

بني هارون… جبال تأسر الناظر

يوفر سد بني هارون العملاق مع جسر وادي الذيب الذي يمر فوقه وكذا الطبيعة الجبلية المحيطة به والاخضرار الذي يتم به، فضاء سياحيا منقطع النظير، لذلك قامت ولاية ميلة بتقديم عدة مقترحات للمتعاملين الاقتصاديين من أجل تجسيد مشاريع سياحية وفندقية وترفيهية معتبرة، ومن بين الاقتراحات المقدمة، نذكر إنجاز حظائر للتسلية والتنزه تضمن حتى التنقل عبر السد بالقوارب وهناك حتى فكرة لإنجاز – تيليفيريك- يربط ضفتي السد كخدمة عمومية وسياحية جميلة.

وسيدعم ذلك موقع المنطقة التي طالما عرفت بكونها موقفا لا غنى عنه على الطريق الوطني رقم 27 المؤدي للشواطئ الجيجيلية. كما انتهز التجار اهتمام سكان ميلة الذين يأتون للاصطياف بالمنطقة الخلابة لينشئوا محلات لبيع الشواء اللذيذ وكذا دكاكين للخضر والفواكه والمثلجات ومرافق ترفيهية.

لمياء بن دعاس

OLYMPUS DIGITAL CAMERA
OLYMPUS DIGITAL CAMERA