انطلقت الدبلوماسية الجزائرية مع أول ومضة “دعائية” لمجموعة الـ6 التاريخيين من خلال جملة المبادئ والقيم والأبعاد التي أعلن عنها بيان “نداء أول نوفمبر” الذي حدد الوسائل والأهداف المسطرة للوصول إلى الاستقلال.
لكن الأرضية الأولى للدبلوماسية الجزائرية “الثورية” لم تكن وليدة الفاتح نوفمبر ولا عشيته، كونها ارتبطت ارتباطا وثيقا بمساعي الحركة الوطنية بدء بعريضة الأمير خالد الموجهة إلى مؤتمر فرساي الذي حمل أول إطار قانوني دولي يسمح للجزائريين بالعمل الدبلوماسي من أجل التحرر من خلال المبادئ الـ14 التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي ويلسون بباريس والتي تتضمن حق الشعوب المستعمرة في تقرير مصيرها مرورا بالتحركات وجهود التواصل التي كانت تقودها تيارات الحركة الوطنية في الخارج للتعريف بالقضية الجزائرية، على المستوى “التنظيماتي” مثل ما عمل عليه نجم شمال إفريقيا في “مجاميع” اليسار حيث تذكر المصادر التاريخية مشاركة النجم في فيفري 1934 في المظاهرات المناهضة للإمبريالية في فرنسا فضلا عن الملتقيات التي كانت تنظم في دول أوروبا الشرقية.
عريضة الأمير خالد وتحركات نجم شمال إفريقيا.. البداية
بالمقابل، شكل تأسيس مكتب المغرب العربي بالقاهرة ثم جهود التواصل بين المناضلين الجزائريين و حركة الضباط الأحرار بمصر منعرجا حاسما في تاريخ الدبلوماسية الثورية عشية الفاتح نوفمبر، حيث مثل المكتب المؤسس سنة 1947 رفقة الأشقاء التونسيين و المغاربة “منصة” هامة للعمل الدبلوماسي في الأقطار العربية والإسلامية ثم مع أقطاب المعسكر الشيوعي التي كان من مصلحتها “إضعاف” فرنسا والسائرين في فلك الولايات المتحدة الأمريكية من خلال دعم حركات التحرر التي “انتعشت” بصفة صريحة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ليكون المشهد أكثر وضوحا بعد استقلال عدد من الدول العربية وتخلص أخرى من الوصاية المفروضة عليها، و بالتالي توفر “المحفزات” التحررية في ظل الظروف الدولية السائدة، و عزز هذه المعطيات ظهور هيئات تحمل في أرضيتها “مفاتيح” لا تقل أهمية عن الأسلحة المعتمدة في ميدان المعارك، على رأسها هيئة الأمم المتحدة.
مكتب المغرب العربي بالقاهرة.. المنصة
من هذا المنطلق، وضع الجزائريون مسبقا في حسبانهم ضرورة العمل على “الجبهة الدبلوماسية” إذا قرروا يوما خوض “حرب تحررية” ضد فرنسا، ما دفعهم إلى “توطئة” تواجدهم بالخارج من خلال إنشاء مكتب لحركة انتصار الحريات الديمقراطية بالقاهرة، وهي المنصة التي عرفت انتعاشا واضحا في نشاطها بعد جويلية 1952 (انقلاب الضباط الأحرار على الملك فاروق) وبروز شخصية جمال عبد الناصر بمشروعه الطموح، ما سهل “مهمة” البعثة الجزائرية في إقناعه بدعم أي عمل ثوري داخل الأراضي الجزائرية و هي المهمة التي تكفل بها أحمد بن بلة، وتذكر المصادر المصرية أن جمال عبد الناصر هو من فرض خيار دعم الثوار الجزائريين على حساب التحفظ “الاجماعي” لمجلس الثورة المصري وقتئذ، مثلما يفيد بذلك مسؤول المخابرات فتحي الديب.
وفي غضون ذلك، شكل نداء أول نوفمبر “الصافرة” الحقيقية لانطلاق العمل الثوري ومعها العمل الدبلوماسي “الثوري” خاصة وأنه يقع على عاتقه مواكبة أحداث الثورة على مستوياتها السياسية التنظيمية وحتى الميدانية، وقد حدد البيان في الشق المتعلق بالأهداف الخارجية للثورة ثلاث نقاط أساسية تتمثل في “1-تدويل القضية الجزائرية، 2 ـ تحقيق وحدة شمال إفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي و الإسلامي، 3 ـ في إطار ميثاق الأمم المتحدة نؤكد عطفنا الفعال تجاه جميع الأمم التي تساند قضيتنا التحريرية”، وأشار في الشق المتعلق بوسائل الكفاح إلى أن ” جبهة التحرير الوطني، لكي تحقق هدفها يجب عليها أن تنجز مهمتين أساسيتين في وقت واحد وهما: العمل الداخلي سواء في الميدان السياسي أو في ميدان العمل المحض، و العمل في الخارج لجعل القضية الجزائرية حقيقة واقعة في العالم كله، و ذلك بمساندة كل حلفائنا الطبيعيين”.
نداء 1 نوفمبر.. الصافرة
ويشكل مؤتمر الآفروآسياوي الذي انعقد في 17 أفريل 1955 بباندونغ (اندونيسيا) نقطة تحول رئيسية في كفاح الشعب الجزائري والدور السياسي لجبهة التحرير، خاصة وأنه اختتم بإصدار بيان تضامني مع الثورة الجزائرية في حربها الدائرة ضد الاستعمار. ويعتبر المؤرخون مؤتمر باندونغ الباب الذي خرجت عبره القضية الجزائرية للعالم، حيث حضرت جبهة التحرير كملاحظ وهذا كان شهادة ميلاد لدبلوماسية جبهة التحرير على الصعيد الرسمي الدولي وطالبت الدول المجتمعة هيئة الأمم المتحدة بتسجيل القضية الجزائرية في جدول أعمالها وبهذا تكون جبهة التحرير قد تمكنت من فك العزلة عن الثورة الجزائرية وتحطيم خرافة “الجزائر فرنسية”.
و مثل وفد جبهة التحرير الوطني كل من أمحمد يزيد وحسين آيت أحمد، حيث أصدر المؤتمر قرارا ينص على حق الشعب الجزائري والمغربي والتونسي في تقرير المصير والاستقلال، وتبعا للقضية الجزائرية في المحافل الدولية، تقدمت مجموعة من الدول الإفريقية والأسيوية في صيف 1955 بمذكرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة طلبت فيها تسجيل القضية الجزائرية في جدول أعمال الدورة العاشرة للجمعية العامة.
وقد طرحت فيه القضية الجزائرية عام 1955 بطلب من وفود وممثلي مجموعة الدول الأفروأسيوية، وعلى رأسها الدول العربية منها السعودية وكان الهدف من هذا التحرك هو إدراج القضية الجزائرية في جدول أعمال الدورة العاشرة لهيئة الأمم المتحدة ، وتقدمت الدول الافرو-أسيوية الثلاثة عشر بطلب عقد جلسة طارئة خاصة بالأوضاع في الجزائر لكن الحلف الأطلسي الذي كانت دوله تقف إلى جانب فرنسا دفع بمجلس الأمن إلى رفض الطلب.
لتعود وفود الدول الأفروأسيوية بتقديم طلب آخر لإدراج القضية الجزائرية في جدول أعمال الدورة للهيئة الأممية، وفي 16 جويلية 1957 انعقدت الدورة الـ 12 وتقدمت مجموعة الدول الأفرو-أسيوية مرة أخرى بطلب إدراج القضية الجزائرية في جدول الأعمال.
وبالموازاة معها، سطرت الثورة الجزائرية للعمل الدبلوماسي في الخارج عدة طرق وأساليب، حيث لم تكتف فقط بالجانب السياسي بل بكل ما يمكن أن يفيد في التعريف بالقضية ومن هذه الوسائل والأساليب: التمثيل السياسي عن طريق ممثلي الثورة في الخارج، حيث كانوا يقومون بمختلف النشاطات منها عقد الملتقيات والندوات والمحاضرات في المعاهد والجامعات للتعريف بالقضية الجزائرية، فتح مكاتب جبهة التحرير في عواصم الدول المساندة للثورة لتمثيل الجزائر بها فضلا عن تنظيم الجالية الجزائرية في المهجر لدعم ثورتهم ماديا ومعنويا، وفي فرنسا أنشأت فدرالية جبهة التحرير التي لعبت دورا كبيرا في تنظيم الثورة داخل فرنسا، وصنفت قسم العمل السياسي والعسكري بالولاية السابعة مع إنشاء شبكات الدعم لتزويد الثورة بالمال والسلاح.
مؤتمر باندونغ 1955.. الانتصار الأول
أما على مستوى التمثيل الثقافي و الرياضي فقد أولى له مؤتمر الصومام أهمية خاصة، فقد نادت جبهة التحرير بإنشاء فرق رياضية ومسرحية وسينمائية لتنشط داخل التراب الوطني كوسيلة لنشر الوعي بين الشعب الجزائري، وفي نفس الوقت كانت هذه الفرق تحضر التظاهرات الدولية كممثلة للشعب الجزائري وعن طريقها تحسس شعوب العالم بوجود شعب له هويته وثقافته لأن الوجود الاستعماري الفرنسي الذي فاق القرن حاول طمس هُوِيَّة هذا الشعب في العالم خاصة منه العالم الأوروبي، فتمثيل هذه الفرق للجزائر بواسطة كرة القدم أو المسرح أو الصورة السينمائية، كان له الدور الكبير في تغيير ذهنيات العديد من الدول وبالتالي كسب المساندة والتأييد.
و قد شكل مؤتمر الصومام هو الآخر منعرجا حاسما في الكفاح الدبلوماسي لما جسده من التنظيم و “الهيكلة”، لقد تمكن مؤتمر الصومام من تكثيف الجهود لتصبح القضية الجزائرية قضية دولية من خلال الحصول على تأييد الشعوب والدول المناهضة للاستعمار، كما قام بإنشاء مكاتب لجبهة التحرير الوطني في الخارج، وتمكن أيضا من تأكيد حضورها في المحافل والهيئات الدولية وقام بتدعيم العمل الدبلوماسي لجبهة التحرير الوطني، وذلك بتعيين السيد:” محمد الأمين دباغين ” مسؤولا على مندوبية الخارج.
وقد حرص المؤتمر أيضا على إقامة علاقة سياسية مع تونس والمغرب وتنسيق المجهودات الدبلوماسية من أجل الضغط على الحكومة الفرنسية في الميدان الدبلوماسي، حيث أشاروا في وثيقة الصومام إلى اندماج القضية الجزائرية مع القضيتين المغربية والتونسية، كما اعتبر المؤتمر أن استقلال المغرب وتونس دون استقلال الجزائر لا قيمة له، وبالتالي يجب تحقيق الاستقلال في إطار موحد.
ومن هذا المنطلق، صارت الدبلوماسية الجزائرية تلعب دورا حساسا رئيسيا يتمثل في التصريحات التي كان يدلي بها ممثلون جبهة التحرير وكذلك الندوات الصحفية التي كانوا يعقدونها في مختلف العواصم الأجنبية. كما استغل ممثلو جبهة التحرير الوطني في الخارج وسائل الإعلام في البلدان الشقيقة والصديقة لإبراز الانطلاقة والتعريف بالثورة الجزائرية وبأهدافها وأبعادها الحقيقية. وقد خدمت هذه البرامج الإعلامية الثورة الجزائرية خير خدمة، فكانت أداة فعالة لغرس روح النضال وتقوية الإيمان بالنصر ورفع معنويات الجماهير الجزائرية في الداخل والخارج وحشدها وراء الثورة، وكانت أيضا خير وسيلة لتمرير الدور الدبلوماسي لقادة الثورة الجزائرية.
ومع إنشاء الحكومة الجزائرية المؤقتة في 19 سبتمبر 1958 من أجل توجيه خطاب الثورة إلى الخارج، استطاعت هذه الأخيرة افتكاك اعتراف قادة الدول الكبرى بعدالة القضية الجزائرية من خلال آلتها الدبلوماسية التي كانت حاضرة بقوة في معظم المحافل الدولية.
وقد تم الإعلان عن تأسيسها من ثلاث عواصم عربية في نفس الوقت هي القاهرة وتونس والمغرب، قد اعترفت بها أكثر من 30 دولة عربية وإفريقية وأسيوية وأمريكية، و من الدور البارز على المستوى الدولي أنها أبرمت العشرات من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.
كما تمثل دور الحكومة المؤقتة في التكفل بشؤون اللاجئين الجزائريين في الخارج وتحضير الإطارات لمرحلة ما بعد الاستقلال، وكذا مواجهة مؤامرات أعداء الثورة التحريرية وأطروحات الاستعمار المناهضة لبيان أول نوفمبر 1954، إلى جانب تنشيط الدبلوماسية على الصعيدين الإقليمي والدولي لكسب التأييد العالمي للقضية الجزائرية.
ومن بين أهداف تأسيس الحكومة المؤقتة في ذلك الوقت هو تفادي الضغوط الخارجية على الثورة وكذا تدعيم مؤسساتها بهيكل رسمي للتفاوض مع فرنسا، حيث كان مبدأ تأسيس الحكومة المؤقتة يرتكز على ضرورة الحفاظ على مصالح الشعب والقضية الجزائرية واحترام سيادة الدول خاصة دول الجوار والحياد في الصراع الذي كان قائما بين المعسكرين الشرقي والغربي في تلك الفترة، وساهم دور الدبلوماسية الجزائرية آنذاك في إجهاض أطروحات الاستعمار وكسب تأييد الدول للقضية الجزائرية وإحباط مؤامرات أعداء الثورة في الداخل، إلى جانب جهود الدبلوماسية الجزائرية في الخارج خلال تلك الحقبة لتجنيد الرأي العام العالمي لنصرة القضية الجزائرية وتدويلها في المحافل الدولية وكذا شراء الأسلحة وإرسالها إلى قيادة الثورة في الداخل.
ومع السنوات الأخيرة للثورة، برزت الدبلوماسية الجزائرية لتجد نفسها وجها لوجه مع الدبلوماسية الفرنسية “المتمرسة” في تجارب عالمية كبيرة، من خلال المفاوضات الشاقة والطويلة التي بدأت مع دعوة ديغول للشروع في مفاوضات مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، بشكل رسمي وعلني عبر الخطاب الذي ألقاه يوم 14 جوان 1960.
وبناءً على ذلك كلفت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كل من محمد الصديق بن يحيى و أحمد بومنجل بإجراء محادثات في 25 جوان 1960 بمدينة مولان الفرنسية مع الطرف الفرنسي.
الحكومة المؤقتة.. تركيز الجهود الديبلوماسية
استمرت هذه المحادثات إلى غاية 29 جوان من نفس الشهر، غير أنها باءت بالفشل بعد أن تأكدت نوايا فرنسا السيئة والخلافات الواضحة بين الطرفين حول العديد من القضايا التي أراد فيها الفرنسيون إملاء شروطهم سعيا للتعجيل بوقف إطلاق النار لا غير. وقد شرح فرحات عباس رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية – في نداء وجهه للشعب الجزائري يوم 5 / 7 / 1960 – موقف حكومته من محادثات مولان حين قال “… فعندما اتخذنا في العشرين من جوان الأخير قرارا يقضي بإرسال بعثة إلى فرنسا، لم يفتنا أن نذكر بأن هناك خلافات كبرى بيننا و بين الحكومة الفرنسية ، و في مولان اتضح أن هذه الخلافات أكبر مما كنا نظن … فلم يكن تقارب بين وجهات نظر الفريقين فحسب ، وإنما وجد مبعوثانا نفسيهما أمام رفض بات للدخول في المفاوضات … وحتى في المفاوضات تقف الحكومة الفرنسية موقف الاستعماري العنيد و ترفض كلية مناقشة الند للند…”.
ومع تطور الاحداث ، و جدت حكومة ديغول نفسها مجبرة على العودة إلى طاولة المفاوضات . وبمساعي سويسرية ممثلة في شخص أوليفي لانغ تجددت اللقاءات بين وفدي الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية والحكومة الفرنسية في لوسارن ونيوشاتل، جمعت أحمد بومنجل وأحمد فرنسيس و سعد دحلب بممثلي الحكومة الفرنسية براكروك ، ثم شايي. ولاحقا التقى جورج بومبيدو و دولوس الطيب بولحروف في نيوشاتل، ثم تم برمجة مفاوضات ايفيان الأولى وبعدها لوغران إلى غاية مفاوضات ايفيان الثانية و ذلك بعد أن صادق المجلس الوطني للثورة الجزائرية على مسودة لي روس حيث أعلنت الحكومة المؤقتة رغبتها في مواصلة المفاوضات رسميا في مدينة ايفيان الفرنسية، أين التقى كريم بلقاسم وسعد دحلب ومحمد الصديق بن يحيى ، ولخضر بن طوبال وامحمد يزيد و عمار بن عودة رضا مالك و الصغير مصطفاي بالوفد الفرنسي: لوي جوكس وروبير بيرون ، و برنار تريكو و برينو دو لوس
وكلود شايي والجنرال دو كماس ، في جولة أخيرة من المفاوضات امتدت ما بين 7- 18 مارس 1962 وتوجت بإعلان توقيع اتفاقيات ايفيان و إقرار وقف إطلاق النار، و إقرار مرحلة انتقالية وإجراء استفتاء تقرير المصير. كما تضمنت هذه الاتفاقيات جملة من اتفاقيات التعاون في المجالات الاقتصادية و الثقافية سارية المفعول لمدة 20 سنة… لتجسد بذلك مسيرة ديبلوماسية “ثورة” تحولت إلى ديبلوماسية “مفاوضات” وانتصار.