-
دعوة جزائرية لقرارات جماعية ردعية حازمة
في جدة، اجتمع وزراء خارجية العالم الإسلامي في دورة استثنائية لمنظمة التعاون الإسلامي، لكن خلف الكلمات والبيانات طفى سؤال أعمق: هل تتحول قوة منظمة تمثل أكثر من 1.8 مليار مسلم إلى فعلٍ سياسي رادع، أم تظل مجرد “بيانات تنديد” لا تغيّر شيئا في الواقع؟
المشهد اليوم مختلف، إذ لم يعد الاحتلال الإسرائيلي “يتكلف عناء التستر على مشاريعه التوسعية”، وبات يجاهر بخطط تهجير قسري وإحياء ما يسمى بمشروع “إسرائيل الكبرى”، بينما تتواصل حرب الإبادة في غزة. وفي مواجهة هذا الانكشاف، تصبح لحظة جدة اختبارا حقيقيا لقدرة الأمة الإسلامية على الانتقال من الغضب الشعبي إلى “قرار جماعي مؤثر” يفرض نفسه على المجتمع الدولي.
من التستر إلى العلن.. إسرائيل تعلن مشروعها التوسعي
لم يعد الاحتلال الإسرائيلي يخفي أطماعه، وبات يجاهر بما كان يخفيه لسنوات طويلة. فقد صار قادته يعلنون صراحة نواياهم في إعادة احتلال غزة عسكريا وفرض سياسة التهجير القسري، والتمدد نحو ما يسمى بـ”إسرائيل الكبرى”. هذا التحول من التمويه إلى العلانية يحمل دلالات خطيرة، إذ يعكس قناعة الاحتلال بأن “المجتمع الدولي عاجز عن ردعه” أو غير مستعد لاتخاذ خطوات فعلية توقف جرائمه. وهنا تكمن خطورة اللحظة الراهنة: احتلال يزداد اندفاعا بلا رادع، وأمة إسلامية تمتلك أدوات القوة لكنها لم تستثمرها بعد في قرار جماعي ضاغط. إن هذا الإفصاح العلني عن المشروع التوسعي الإسرائيلي يعني أن معركة غزة لم تعد تخص القطاع وحده، بل تتجاوز حدوده إلى تهديد الأمن والاستقرار في كامل المنطقة. فالمخططات الإسرائيلية، لم تعد خافية على أحد: إعادة رسم الحدود، المساس بأمن دول الجوار، وضرب ركائز القضية الفلسطينية برمتها عبر القضاء على حل الدولتين. وهنا يبرز دور منظمة التعاون الإسلامي باعتبارها الإطار الجامع لـ57 دولة تمثل أكثر من 1.8 مليار مسلم، ما يضعها أمام “واجب تاريخي” لتحويل هذا الإدراك المشترك إلى استراتيجية مواجهة واضحة وفاعلة. وإذا كانت “إسرائيل” تراهن على “تشتت المواقف” وانشغال كل دولة إسلامية بأولوياتها الداخلية، فإن اجتماع جدة يشكل فرصة لإسقاط هذا الرهان. فالاحتلال الذي يعبث بقرارات الأمم المتحدة ويتحدى الشرعية الدولية لم يترك مجالا للمناورة أو الحياد، وأجبر الجميع على مواجهة حقيقة واضحة: إما الاستمرار في إصدار بيانات التنديد التي فقدت أثرها، أو الارتقاء إلى مستوى القرارات العملية، وفي مقدمتها العقوبات السياسية والاقتصادية. وهذا الانتقال من التنديد إلى الردع هو ما تنتظره الشعوب الإسلامية، وهو ما يُفترض أن تترجمه القيادات السياسية إلى واقع ملموس. وهكذا، فإن وضوح المخططات الإسرائيلية اليوم يمكن أن يتحول إلى “عامل محفّز” بدل أن يكون مجرد مصدر إحباط. فالمعادلة باتت مكشوفة، والأقنعة سقطت، ولم يعد هناك مجال للتأويل. ومع هذا الانكشاف، يصبح الرهان على الموقف الإسلامي الموحّد أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، لأن التهديد لا يطال فلسطين وحدها، بل يفتح الباب أمام فوضى إقليمية تهدد الجميع. وهنا بالضبط يكمن التحدي الذي يجب أن يترجمه اجتماع جدة من مجرد نقاش إلى قرار تاريخي.
من الأقوال إلى الأفعال.. منظور جزائري لمعادلة الصراع
أمام هذا الانكشاف الإسرائيلي، جاءت كلمة وزير الخارجية، أحمد عطاف، لتعكس رؤية الجزائر بوضوح: “لا مجال للوقوف عند حدود التنديد”، بل يجب تبني منظور جديد في التعاطي مع التهديدات. فالتصعيد الإسرائيلي يستهدف غزة ويسعى إلى تصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية وتفجير استقرار المنطقة بأسرها. ومن ثمّ، شددت الجزائر على أن المرحلة تفرض الانتقال من لغة الشجب إلى تبنّي “التدابير الردعية” المتاحة في القانون الدولي، وفي مقدمتها العقوبات التي لطالما استخدمها الغرب ضد دول أخرى، بينما لم تُفعّل يوما بحق الاحتلال. إن هذه الدعوة، تعكس قناعة متنامية، بأن “زمن الحلول الترقيعية قد انتهى”. فالمخططات الإسرائيلية التي باتت تجاهر بمشروع “إسرائيل الكبرى” لم تعد تهدد فلسطين وحدها، بل تستهدف مصر والأردن وعموم المنطقة. وبذلك، فإن مواجهة هذه التهديدات لا يمكن أن تظل رهينة مبادرات منفردة، وإنما تحتاج إلى موقف جماعي متماسك يترجم الإرادة الإسلامية إلى قرارات ملموسة على الساحة الدولية. وهذا بالضبط ما حاولت الجزائر الدفع به من خلال خطابها في جدة. إن تبنّي منظور جديد يعني أيضا إعادة صياغة أدوات الضغط، بحيث لا يظل العالم الإسلامي في موقع رد الفعل، بل يتحول إلى طرف يفرض شروطه عبر ثقله السياسي والديمغرافي والاقتصادي. فالجزائر، التي تملك رصيدا تاريخيا في دعم حركات التحرر، أرادت من خلال خطابها أن تذكر الحاضرين بأن “القضية الفلسطينية هي قضية استراتيجية تتعلق بوجود الأمة وكرامتها. ومن ثم، يصبح من الضروري التفكير في آليات مثل مقاطعة الاحتلال اقتصاديا ودبلوماسيا، أو فرض عزلة سياسية عليه من خلال تفعيل مؤسسات التعاون الإسلامي على نحو غير مسبوق. وبهذا المعنى، فإن الموقف الجزائري كان محاولة جادة لوضع أسس تفكير جماعي جديد. فدعوة عطاف إلى منظور مغاير هي بمثابة إشارة إنذار للجميع: أن استمرار الوضع الراهن يعني ترك الاحتلال يفرض أجندته دون رادع، بينما الانتقال إلى الفعل هو السبيل الوحيد لحماية مستقبل فلسطين والمنطقة. وهنا يبرز التساؤل: هل ستلتقط العواصم الإسلامية هذه الرسالة وتحوّلها إلى خطوات عملية؟
تهديدات إسرائيلية مباشرة تضيّق الخناق على دول الجوار
التهديد الإسرائيلي امتد ليطال جوار فلسطين المباشر، خاصة مصر والأردن. وهو ما أشار إليه وزير الخارجية أحمد عطاف، حين أكد أن المشروع التوسعي الإسرائيلي “لم يعد يتورع عن المجاهرة بمخططاته”، التي تقوم على إعادة رسم حدود المنطقة وإضعاف دولها المركزية. فإعادة احتلال القطاع وتهجير سكانه، إذا تحقق، لن يكون سوى مقدمة لسيناريو أوسع يستهدف زعزعة استقرار القاهرة وعمّان، بما تحمله هاتان الدولتان من ثقل تاريخي وسياسي وجغرافي في المعادلة الفلسطينية. إن مصر، باعتبارها الضامن الأساسي لاتفاقيات السلام ومفتاحا استراتيجيا لمعبر رفح، تجد نفسها في قلب المخطط الإسرائيلي، الذي يسعى لتحويل القطاع إلى عبء أمني واقتصادي على أراضيها. فالخطر لا يكمن فقط في التدفق المحتمل للاجئين، وإنما أيضا في إضعاف الدور المصري كوسيط تقليدي في النزاع، ما يعيد رسم توازنات القوى في المنطقة. وفي المقابل، يواجه الأردن تهديدا مباشرا لأمنه القومي عبر محاولات إسرائيل فرض وصاية جديدة على القدس والمسجد الأقصى، بما يتعارض مع دوره التاريخي في رعاية المقدسات الإسلامية والمسيحية هناك. هذه التهديدات تجعل من قضية غزة بوابة لمخاطر أكبر تطال سيادة واستقرار دول الجوار، وهو ما يعني أن “المعركة لم تعد فقط فلسطينية”، بل إقليمية بامتياز. فنجاح الاحتلال في فرض مخططاته على القطاع، سيُترجم إلى واقع جديد يهدد القاهرة وعمّان ويضع المنطقة برمتها أمام موجة جديدة من التوترات. وهنا يتضح أن الموقف الجماعي المطلوب من منظمة التعاون الإسلامي يهدف لحماية غزة وصيانة الأمن القومي العربي والإسلامي من تداعيات مشروع توسعي لا يعرف حدودا. ومن هذا المنطلق، يصبح التضامن مع مصر والأردن ضرورة استراتيجية، لا مجرد واجب تضامني. إذ أن أي اختلال في استقرارهما ستكون له ارتدادات على مجمل المنطقة، وربما يفتح الباب أمام مزيد من التنازلات المفروضة على الشعوب والدول تحت غطاء “الأمر الواقع”. ولذلك فإن الرد الجماعي، كما دعت إليه الجزائر في جدة، يجب أن يقرأ التهديد في شموليته: من غزة إلى عمّان إلى القاهرة، حتى لا تتحول الأزمة إلى كرة ثلج تبتلع توازنات المنطقة بأسرها.
المنظمة مطالَبة بتحويل الغضب إلى قرارات
وإذا كانت مصر والأردن في قلب التهديدات المقبلة، فإن ذلك يضع منظمة التعاون الإسلامي أمام لحظة فاصلة: إما أن تتحول إلى منصة لفعل جماعي قادر على “ردع المشروع التوسعي” ووقف حرب الإبادة في غزة، وإما أن تبقى حبيسة دورة البيانات الموسمية. المعادلة واضحة: 57 دولة تمثل أكثر من “1.8 مليار مسلم” لا يمكن أن يُختزل وزنها في صياغات إنشائية. المطلوب اليوم هو الارتقاء من الإدانة الأخلاقية إلى قرار سياسي منزّل يغيّر حسابات الاحتلال وحلفائه، ويعيد الاعتبار لفكرة الكتلة الإسلامية كفاعل دولي معتبر. لدى المنظمة أدوات واقعية يمكن تفعيلها فورا إذا توفرت “إرادة القرار”: تحرك دبلوماسي منسق بوثيقة موقف واحدة تُودَع في مجلس الأمن والجمعية العامة؛ مسار قانوني متكامل يدعم الدعاوى أمام محكمة العدل الدولية والمحاكم الوطنية ذات الولاية العالمية؛ رافعة اقتصادية وتجارية تعيد النظر في الامتيازات والتعاقدات مع الأطراف المتواطئة مع جرائم الاحتلال؛ وحملة اتصال استراتيجية موحدة تكسر السردية الإسرائيلية في الإعلام العالمي. ليست هذه شعارات، بل أوراق ضغط مشروعة جُرّبت في أزمات دولية أخرى وغيّرت موازين القوة حين فُعّلت بكتلة واحدة. لكن الانتقال من الأفكار إلى التنفيذ، يتطلب هندسة مؤسسية دقيقة داخل المنظمة: تشكيل لجنة وزارية مصغّرة بجدول زمني واضح لمتابعة القرار، مرجعية قياس للأثر تحدد “ما يُنجَز وما لم يُنجَز”، وغرفة عمليات دبلوماسية تتولى تنسيق التحركات في العواصم المؤثرة. كما يتطلب تجاوز “تباينات العواصم” عبر صيغة مرنة تُتيح لكل دولة اختيار مستوى الانخراط (دبلوماسي، قانوني، اقتصادي) دون تعطيل الإجماع على الهدف المركزي: وقف الإبادة، منع التهجير، وصون مقومات حلّ الدولتين. بهذه المقاربة العملية، يصبح الحديث عن الموقف الموحد مسارا قابلا للقياس لا عنوانا فضفاضا. وأخيرا، يبقى التحدي الحقيقي هو الاستمرارية: أن لا ينتهي زخم جدة بانفضاض القاعة. فالمطلوب آلية متابعة شهرية تُبقي الملف حيّا، وتحوّل “الغضب الشعبي” إلى “إرادة سياسية مستدامة”، وتُشعر الاحتلال بأن كلفة الإمعان في العدوان ترتفع بمرور الوقت. عندها فقط يصبح سؤال المرحلة مشروعا: هل نجحت المنظمة في تحويل قوة 1.8 مليار مسلم إلى قرار؟ إن الإجابة لن تُقاس ببلاغة البيانات، وإنما بقدرتها على تغيير الوقائع على الأرض وإغلاق الطريق أمام مشروع التوسع والتهجير إلى غير رجعة.
م. ع