-
دعم رئاسي وتحفيزات ميدانية تحوّل الجنوب إلى قطب استثماري واعد
-
الزراعة الصحراوية.. ركيزة وطنية لتعزيز الأمن الغذائي وتقليص التبعية
تقدمت الجزائر بخطى واثقة إلى المحافل الدولية، حاملة معها تجربة فريدة في الزراعة الصحراوية، لتعرضها خلال قمة الأمم المتحدة لمتابعة أنظمة الغذاء المنعقدة في أديس أبابا، كنموذج مبتكر لتحقيق الأمن الغذائي في ظل التغيرات المناخية العالمية.

وقد جاء هذا الحضور الرسمي ممثلا في وزير التجارة الخارجية وترقية الصادرات، كمال رزيق، بتكليف من رئيس الجمهورية، ليؤكد أن الجزائر تسعى لتقاسم رؤيتها مع دول تواجه تحديات مشابهة، خصوصا في القارة الإفريقية. شكّلت مشاركة الجزائر في قمة متابعة أنظمة الغذاء للأمم المتحدة بأديس أبابا مناسبة دولية مهمة لعرض تجربتها الفريدة في مجال الزراعة الصحراوية، في لحظة تعاظم فيها التحديات البيئية والمناخية التي تواجه الأمن الغذائي العالمي. فخلال فعالية موازية رفيعة المستوى، حرص الوفد الجزائري الرسمي على إبراز التقدم المحقق في هذا المجال، وتقديم النموذج الجزائري كمصدر إلهام للدول ذات المناخات الجافة وشبه الجافة، خصوصا في إفريقيا. وقد جاء هذا الحضور القوي للجزائر بتكليف مباشر من رئيس الجمهورية، في خطوة تعكس المكانة المتنامية للتجربة الجزائرية في المحافل الدولية، وتأكيدا على التزام الدولة بتحقيق أمنها الغذائي وفق رؤية وطنية متكاملة. لم تكتف الجزائر بعرض الإنجازات، إذ ربطت تجربتها بتحديات إقليمية ودولية مشتركة، مبرزة كيف يمكن للزراعة الصحراوية أن تتحول من حل محلي إلى خيار عالمي. ما ميز هذا اللقاء الدولي هو الإشادة الواسعة التي حظي بها النموذج الجزائري من قبل ممثلي المنظمات والهيئات الدولية المشاركة، إذ اعتُبرت الزراعة الصحراوية الجزائرية ابتكارا واعدا، لا يُعالج فقط نقص الغذاء، وإنما يساهم أيضا في تحقيق التوازن البيئي وخلق مجتمعات قادرة على الصمود في وجه التغيرات المناخية. هذا التقدير الأممي يمنح التجربة الجزائرية بعدا جديدا يتجاوز حدودها الجغرافية. وخلال القمة، حرصت الجزائر على تقديم الزراعة الصحراوية كجزء من رؤية تنموية متكاملة، لا تقتصر على الإنتاج الغذائي فقط، وإنما تمتد لتشمل دعم الاستقرار في الجنوب، وتثبيت السكان في بيئتهم، وتنشيط الاقتصاد المحلي، وفتح آفاق واسعة أمام الاستثمار والتشغيل. وهو ما يجعل هذا النموذج مختلفا عن محاولات سطحية سابقة لم تؤسس لحلول مستدامة. هذا الانطلاق القوي من منصة دولية بحجم قمة الأمم المتحدة لأنظمة الغذاء يعكس وعي الجزائر بأهمية تسويق تجربتها وتبادلها مع شركاء في القارة وخارجها، في وقت تتجه فيه أنظار العالم نحو حلول مبتكرة وخارج النماذج التقليدية لمواجهة الأزمات الغذائية والبيئية.
كيف تحولت صحراء الجزائر إلى قطب زراعي؟

وبعد أن اكتسبت التجربة الجزائرية في الزراعة الصحراوية، اعترافا دوليا في قمة أديس أبابا، يصبح من الضروري التعمق أكثر في مسار هذا التحول الذي لم يكن سهلا. فالصحراء الجزائرية التي كانت تُنظر إليها لعقود باعتبارها فضاء قاحلا وغير منتج، تحوّلت اليوم إلى رافعة تنموية واعدة بفضل إرادة سياسية واضحة، ورؤية استراتيجية تم بناؤها على استغلال الموارد المحلية والتكنولوجيات الحديثة. تمتلك الجزائر ما يقارب 3 ملايين هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة في الصحراء، منها 1.5 مليون هكتار مؤهلة للاستصلاح وجذب الاستثمارات. هذه الأرقام تكشف حجم الإمكانات التي تمت إعادة اكتشافها، وتحولت إلى قاعدة انطلاق نحو بناء قطب زراعي استراتيجي في الجنوب الكبير. ويُعد ذلك مؤشرا على أن الرهان كان نابعا من قراءة دقيقة للمعطيات الطبيعية والاقتصادية والديمغرافية للبلاد، ضمن رؤية تهدف إلى تحقيق السيادة الغذائية وتقليص الفجوة بين الشمال والجنوب. السلطات العمومية واكبت هذا التحول بدعم مباشر وميداني، تمثل في تشجيع المستثمرين الشباب والخواص، وتوفير التسهيلات العقارية والجبائية، إلى جانب مواكبة تقنية من خلال مراكز بحث ومعاهد متخصصة في الزراعة الصحراوية. وقد تعزز هذا التوجه بدفعة سياسية واضحة، تمثلت في توجيهات رئيس الجمهورية خلال اجتماع مجلس الوزراء في يناير 2024، حيث أمر بتشجيع الاستثمار الفلاحي في الجنوب، وتسوية الملفات العالقة في استصلاح الأراضي عبر منح وثائق التمليك للمستصلحين، وفقًا لما ينص عليه القانون. كما شدد على ضرورة مرافقة المهنيين في الميدان، بإدخال التقنيات الحديثة وتغيير الذهنيات، بهدف إحداث “ثورة فلاحية” ترتكز على رفع مردودية إنتاج الحبوب وتثمين المزايا الممنوحة من طرف الدولة. ومع تطور التجربة الميدانية، بدأ الجنوب الجزائري يُعيد تشكيل هويته الاقتصادية، حيث نشأت مناطق إنتاجية جديدة في ولايات مثل أدرار والوادي وبسكرة، أصبحت تصدّر منتجاتها إلى مختلف الولايات، بل وحتى إلى الأسواق الخارجية. هذا النجاح الجزئي يؤشر إلى أن الصحراء باتت موردا استراتيجيا يمكن استثماره ضمن منطق شامل يربط الأمن الغذائي بالأمن الاقتصادي والاجتماعي.
نموذج الواحة: تراث بيئي يتحول إلى مختبر للاستدامة

وإذا كانت المساحات الواسعة في الجنوب قد فتحت الباب أمام مشاريع زراعية كبرى، فإن النموذج الواحي التقليدي ظل يحتفظ بأهميته كمرجع محلي قادر على إلهام مسارات التنمية الزراعية الحديثة. فالتحول الذي شهدته الزراعة الصحراوية في الجزائر لم ينبنِ فقط على التكنولوجيا والاستثمار، بل استلهم أيضا من أنماط عيش قديمة لطالما عرفت كيف تتأقلم مع الجفاف وشح الموارد، وعلى رأسها المنظومة الواحية، التي تمثل ذاكرة بيئية عريقة ورافدًا مستمرًا للابتكار الطبيعي. التجربة الجزائرية أثبتت أن الواحات الجزائرية تشكّل نواة حيوية لفهم العلاقة المتوازنة بين الإنسان وبيئته في المناطق القاحلة. من خلال إدارة عقلانية للموارد المائية والتربة، طوّرت هذه المجتمعات أنظمة إنتاج غذائي مستدامة ساهمت في توفير الأمن الغذائي المحلي عبر قرون. واليوم، يشكل هذا الإرث قاعدة يمكن البناء عليها لتوجيه السياسات الزراعية نحو حلول تراعي الخصوصيات المناخية والهيدرولوجية للصحراء. ويرى العديد من المختصين، أن تسليط الضوء على هذا النموذج في صلب المشاريع الزراعية الحديثة يهدف إلى استخلاص الدروس التي تضمن ديمومة المكاسب وتثبيت السكان في مناطقهم الأصلية. فالاستقرار البشري في الجنوب هو عنصر حاسم في ضمان استمرارية الأنشطة الفلاحية، وبناء مجتمعات محلية قادرة على التكيف والمساهمة في الاقتصاد الوطني من قلب الصحراء. في هذا السياق، تتجدد الدعوات إلى إشراك خبراء متعددين في علوم الزراعة، والمياه، والبيئة، والأنثروبولوجيا، لإنشاء فرق ميدانية تعمل على تشخيص التحديات بدقة، واقتراح حلول تتناسب مع طبيعة المناطق المعنية. فالمقاربات الموحدة لم تعد مجدية، والرهان الحقيقي اليوم يتمثل في التأسيس لفكر زراعي محلي، يُدمج فيه العلم الحديث مع المعارف التقليدية الأصيلة.
الماء والتكنولوجيا: معادلة النجاح في البيئة الصحراوية

وإذا كان النموذج الواحي قد وفّر إطارا تقليديا متجذرا للاستدامة، فإن استمرارية هذا النموذج وتوسيعه باتت اليوم رهينة لنجاح الجزائر في دمج التكنولوجيا الحديثة ضمن منظومتها الزراعية، خصوصا فيما يتعلق بإدارة المياه. ففي بيئة شديدة الجفاف ومحدودة الموارد المائية، يصبح الماء العنصر الأكثر حساسية واستراتيجية، وهو ما دفع الفاعلين إلى البحث عن أنماط ري ذكية ومستدامة تضمن الاستغلال الأمثل لهذا المورد النادر. التجربة أثبتت، أن الجمع بين الأنظمة التقليدية كالفُقّارات والسواقي، والتقنيات الحديثة كالتنقيط والرش المحوري بالطاقة الشمسية، يشكل حلا متكاملا يعزز الكفاءة ويقلل من الفاقد المائي. فبدلا من إلغاء الموروث، يتم تحديثه وتحسينه ليواكب متطلبات الإنتاج الزراعي المكثف في الصحراء. هذا التوجه ساهم في تقليص تكلفة الري، وتحقيق نتائج ملموسة في ولايات جنوبية باتت تعتمد عليه كأساس لمواسمها الفلاحية. ويرى مختصون في الاقتصاد الزراعي، أن الاستثمار في تكنولوجيات الري يجب أن يُنظر إليه كأولوية وطنية مرتبطة بالأمن الغذائي مباشرة. فالتحدي في الصحراء لا يتمثل فقط في الزراعة، وإنما في ضمان استمراريتها دون استنزاف المياه الجوفية، التي تمثل المخزون الاستراتيجي لأجيال قادمة. من هنا تنبع أهمية استخدام الطاقة المتجددة في تشغيل آليات الري، لتقليل الأعباء البيئية والمالية في آنٍ واحد. كما أن إشراك المؤسسات البحثية في تطوير هذه الأنظمة سمح بتكييفها مع الظروف المحلية، وتجاوز بعض العراقيل التقنية التي حالت سابقا دون تعميمها.
فلاحو الجنوب وصنّاع التحول الزراعي

وبعد أن أصبحت التكنولوجيا إحدى ركائز نجاح الزراعة الصحراوية، يبرز بوضوح دور العنصر البشري في تجسيد هذا التحول على أرض الواقع. فكل التقنيات والبرامج تظل دون معنى ما لم تجد فلاحا قادرا على استيعابها، توظيفها، والتفاعل معها بمرونة وإبداع. وفي الجنوب الجزائري، أثبت الفلاحون المحليون، خلال السنوات الأخيرة، قدرة استثنائية على التكيف مع الظروف المناخية القاسية، واستيعاب أدوات الإنتاج الحديثة، ما جعلهم شركاء فعليين في هذا المشروع الوطني. لقد شكّل هؤلاء الفلاحون رأس الحربة في تطبيق أنظمة الري الذكية وتبني ممارسات زراعية تراعي الخصوصية الصحراوية. فعلى سبيل المثال، أظهرت تجارب عدة ولايات، خصوصا في الوادي وبسكرة، كيف تمكّن الفلاحون من تحقيق إنتاج وفير ومستقر عبر اعتماد أساليب فعالة لإدارة التربة والماء، مع الالتزام بمخططات الزراعة المستدامة وتناوب المحاصيل. هذه التجارب جسدت ثقافة جديدة بدأت تتشكل في الأوساط الفلاحية الجنوبية. ويُجمع خبراء الزراعة على أن النجاحات المسجلة في الجنوب تعود بدرجة كبيرة إلى روح المبادرة لدى الفلاحين، الذين لم ينتظروا الحلول الجاهزة من المؤسسات، وشاركوا في تصميمها وتعديلها وفقا لحاجياتهم. كما أن عددا منهم دخل مجال الابتكار، واقترح حلولا محلية لمشكلات مثل ملوحة التربة أو ضعف الإنتاجية، مستفيدين من معرفتهم بالمحيط الطبيعي والاجتماعي الذي ينتمون إليه. وقد أدت هذه المبادرات الذاتية إلى توسيع نطاق التجربة، وتحفيز الآخرين على اقتحام عالم الزراعة. وتبرز أيضا، أهمية تأطير هذا العنصر البشري، من خلال مرافقة تقنية وتكوينية فعالة، تضمن تعزيز كفاءته، وتسمح له بمسايرة التطورات في عالم الفلاحة الحديثة. فبرامج التكوين، ومراكز الإرشاد، والدعم البحثي يجب أن تُوجّه بشكل خاص نحو هؤلاء الفاعلين الميدانيين، لأنهم يمثلون المفصل الأساسي بين السياسات المعلنة والنتائج المحققة على الأرض. وقد أظهرت الممارسة أن الاستثمار في الإنسان الفلاحي لا يقل أهمية عن الاستثمار في الآلة أو الأرض.
نحو قطب إقليمي للأمن الغذائي

وإذا كان الفلاح الصحراوي قد أثبت أنه قادر على قيادة التحول الزراعي، فإن هذه الديناميكية البشرية النشطة تفتح الباب أمام تفكير استراتيجي أشمل، يتجاوز حدود الاكتفاء الذاتي، ليضع الجزائر في موقع الفاعل الإقليمي في مجال الأمن الغذائي. فالتراكمات التي تحققت في السنوات الأخيرة على مستوى المساحات المستصلحة، وتبني أنظمة زراعية مبتكرة، تؤهل البلاد لتلعب دورا محوريا في تزويد الأسواق الإفريقية والعربية بمنتجات فلاحية آمنة وذات جودة عالية. وقد أكدت السلطات الجزائرية، في أكثر من مناسبة، أن التوجه نحو جعل الجنوب الكبير قطبا زراعيا استراتيجيا خيار وطني مدعوم سياسيا واقتصاديا. فالمعطيات المتوفرة تشير إلى أن القطاع الزراعي يساهم حاليا بنسبة 18% من الناتج المحلي الخام، أي ما يفوق 35 مليار دولار، وهي نسبة مرشحة للارتفاع إذا تم الاستثمار الجيد في الموارد الصحراوية وتوجيهها نحو التصدير، خاصة في ظل الطلب المتزايد على المنتجات الزراعية في القارة الإفريقية. ورغم هذه المؤشرات الإيجابية، إلا أن تحديات كثيرة ما زالت قائمة، وتفرض نفسها على أي مشروع توسّع طموح. فمشكلات مثل ضعف شبكات النقل، وصعوبة تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ونقص اليد العاملة المؤهلة، قد تُعيق وتيرة التقدم إذا لم تتم معالجتها ضمن مقاربة شاملة ومتعددة القطاعات. كما أن التغيرات المناخية تبقى مصدر قلق دائم، وتتطلب خططا استباقية للتأقلم معها دون التأثير على الإنتاج والاستقرار البيئي. من جهة أخرى، فإن تحوّل الجزائر إلى مصدر إقليمي للأمن الغذائي يستدعي أيضا بناء منظومة لوجستية وتجارية قادرة على تسويق المنتجات الزراعية عبر الحدود، في إطار شراكات رابح-رابح مع الدول المجاورة. وهذا ما يجعل من الزراعة الصحراوية مشروعا جيواقتصاديا يمكن أن يعزز حضور الجزائر في محيطها الإفريقي والعربي، ويرسخ مكانتها كقوة إقليمية مسؤولة ومبادرة.