الخشبة في بعدها العالمي كانت حاضرة شأنها شأن الفنون الأخرى، لتحكي جزء من قصة كفاح الشعب الجزائري وهو يقف في وجه الاستعمار الغاشم الذي مكث لمدة مائة واثنين وثلاثين سنة على أرض ينهب خيراتها، وهو ما عبر عنه «جان جينيه» الذي أحدثت مسرحيته “مسارات” خلال عرضها في صالة الأوديون، سنة 1966 ضجة سياسية عنيفة ليس لأن الكاتب قام بتمجيد الثورة الجزائرية، ولكنه أكثر من ذلك راح يسخر من الجيش الفرنسي عبر مشاهد كاريكاتيرية كوميدية تعرضت لانتقادات لاذعة من الصحافة المحلية.
هذه المشاهد دفعت بعض المشاهدين من أعضاء منظمة الجيش السري التي شاركت في حرب الجزائر، إلى احتلال المسرح ومنع متابعة المسرحية منادين «بالموت لجان جينيه».
وعلى الرغم من تدخل وزير الثقافة الفرنسي «أندريه مالرو» لصالح المسرحية ودفاعا عن جينيه، إلا أن عرض المسرحية لم يستمر سوى ثلاثة أسابيع وقدمتها غالبية العواصم العالمية لعدة أشهر مع حذف بعض المشاهد.
وتنقسم مسرحية «مسارات» إلى أربع فقرات، حيث وقفت الفقرة الأولى عند حياة «سعيد» رفقة زوجته «ليلى» اللذين عانيا الفقر والبؤس تحت نير الاحتلال الفرنسي.
وفي ظل هذه الظروف يتحول سعيد في الفقرة الثانية إلى لص خارج عن القانون، ومنبوذ من طرف الجميع وتتطور الأحداث ليجد البطل وزوجته نفسيهما في الفقرة الثالثة بالسجن.
أما الفقرة الثالثة فكانت مخصصة لاندلاع الثورة التحريرية، حيث نرى أهل القرية يقبلون على بيت الشهيدة «خديجة» ويتلقون من وحي روحها التحريض على الانخراط في الثورة ودعمها ومساندتها، فيروي كل واحد منهم صراعه ضد المحتلين بطريقة رمزية، وفي مواقف درامية تبرز انتشار الثورة في كل ربوع الوطن، ليأتي الانتصار ويتم طرد الاحتلال، وبالتالي ولادة عهد جديد، وهو ما يختم به الكاتب فقرته الرابعة والأخيرة.
وتعد مسرحية «الجثة المطوقة» لكاتب ياسين من بواكير المسرحيات التي تناولت الثورة الجزائرية، وقد عرضت بمسرح موليير في بروكسل، يومي 25 و26 نوفمبر 1958 ثم بباريس في أفريل 1959.
ومن خلال هذه المسرحية، كشف كاتب ياسين أمام الرأي العام العالمي حقيقة مأساة الجزائر، ووصف حرب الإبادة التي شنتها فرنسا، حيث عبر عن آلام وآمال الشعب بقوة لم يستطع أحد قبله ولا بعده أن يعبر عنها.
وتعتبر مسرحية «الباب الأخير» للأشرف مصطفى أول نص مسرحي جزائري نشر بتونس عن الثورة الجزائرية، صدر بمجلة الفكر خلال شهر جويلية 1957… وهذا النص كتب أصلا بالفرنسية، وأرسل به مؤلفه إلى هذه المجلة من سجن (لاسانتي) بباريس حيث كان معتقلا مع جملة زعماء الثورة الجزائرية… وقد ترجمتها أسرة المجلة.
ويعلق «سعد الله أبو القاسم» على هذه المسرحية فيقول: «هي مسرحية تحمل سمات جديدة للواقع وللكفاح معا، إنها تصور الشعب الجزائري وقد تخلص من حيرته وبدأ يتحسس طريقه الشاق الذي يؤمن بأن اجتيازه لن يكون سهلا، والمسرحية تعطي الإشارة إلى بداية المعركة الفاصلة».
ونظرا لأهمية هذا النص، فقد أنشأ الطلبة الجزائريون الزيتونيون فرقة مسرحية، وقاموا بتمثيل هذه المسرحية بإشراف صالح الخرفي.
وتوالت المسرحيات على غرار «حنين إلى الجبل» للخرفي صالح، وعرضت ضمن النشاط المسرحي للطلبة الجزائريين بتونس و«مصرع الطغاة» للركيبي عبد الله، وهي مسرحية نشرت في 1959 وفيها يستعيد الكاتب فجر الثورة التحريرية و«أبناء القصبة» التي أنتجت في 1959 وهي من تأليف عبد الحليم رايس وإخراج مصطفى كاتب ثم «الخالدون» 1960 وهي من تأليف عبد الحليم رايس وإخراج مصطفى كاتب كذلك و«دم الأحرار» في 1961 وهي من تأليف عبد الحليم رايس وإخراج مصطفى كاتب جسدت القيم والمبادئ العليا لثورة التحرير الجزائرية، معاناة المجاهدين في الجبال أيام المقاومة المسلحة، وتلاحم الثوار في العيش وفي الأهداف أيضا.
وفيما يخص تفاعل المسرح العربي مع ثورة التحرير الجزائرية، فإنه ما لا شك فيه أن الثورة الجزائرية كانت من أكبر الثورات العربية التي حفزت وجدان المبدعين العرب مشرقا ومغربا، وفجرت أعماقهم، واستقطبت اهتمامهم، فاستلهموا أحداثها في الكثير من إبداعاتهم.
ويبدو أن رمزية الثورة الجزائرية تجسدت في المسرح العربي من خلال رمزية البطلة الأسطورة جميلة بوحيرد، ولذلك نجد قصتها وصمودها وتحديها للاستعمار وزبانيته هي أكثر ما استهوى المسرحيين العرب الذين كتبوا عن الثورة التحريرية، وفي هذا المجال يمكن أن نذكر «البطلة» للكاتب التونسي محمد فرج الشاذلي و «جميلة» للكاتب الليبي عبد الله القويري. والمسرحيتان منشورتان بمجلة «الفكر» التونسية، بمناسبة إصدار المجلة لعدد خاص عن المسرح وتتناولان موضوعا واحدا هو موضوع إسهام المرأة الجزائرية في الثورة، ومشاركتها الفعالة في النضال الوطني الجزائري، وتفردها بالبطولة في بعض المواقف.
ونذكر كذلك مسرحية «جميلة» للشاعر المصري كامل الشناوي، وهي أوبريت تصور بطولة المرأة في كفاحها من أجل تحرير الجزائر، يستحضر الشاعر شخصية جميلة بوحيرد، ويبرز بشاعة التعذيب الذي لقيته حتى تبوح باسم قائد الفدائيين.
ورغم أن القائد يرسل إليها رسالة يطلب فيها أن تبوح باسمه لأن الفرنسيين لا يعرفونه ولن يهتدوا إليه، إلا أنها ترفض الرضوخ لمطلب جلاديها وتفضل الصمود والتحدي وتُختتم الأوبريت بحوار رائع بين جميلة وقائدها باسل، إذ تتصوره أمامها يحدثها وتحدثه.
ومن الواضح مثلما ذكرنا آنفا، تركيز المسرح العربي على شخصية جميلة بوحيرد واقعا ورمزا وأسطورة ولا غرو في ذلك فهي شابة ثبُتت للمحن والأرزاء بعزيمة وتحمل لكل ما تعرض له السجانون من وحشية وقسوة، وهي بعد في ربيع العمر ونضارة الزهر فأذلت بثباتها، وقوة يقينها وحبها لوطنها، وكانت رمزا للفتاة العربية المسلمة في جلدها وإيمانها وتضحيتها حتى صار ذكرها على كل لسان مثلا يحتذى به في البطولة والفداء.
إن الإبداعات المسرحية الجزائرية التي واكبت الثورة التحريرية، وعبرت عنها، قليلة جدا قياسا مع التراكم الشعري والقصصي، غير أن هذه النماذج القليلة استطاعت أن تعكس حقيقة الثورة وأن تشخص عمق الصراع بأشكاله المختلفة.
ب\ص