يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، يَا سُلَالَةَ الْأَمْجَادِ: إِذَا كَانَتِ الصَّفْحَةُ الْأُولَى مِنْ حَيَاةِ الْأَمِيرِ قَدْ سُطِّرَتْ بِسِنَانِ الرُّمْحِ وَصَلِيلِ السَّيْفِ، فَإِنَّ الصَّفْحَةَ الثَّانِيَةَ قَدْ كُتِبَتْ بِمِدَادِ الْعُلَمَاءِ، وَدُمُوعِ الْأَوْلِيَاءِ، وَمَوَاقِفِ الْحُكَمَاءِ. لَقَدْ سِيقَ الْأَمِيرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى سُجُونِ فَرَنْسَا، فَلَبِثَ فِي “قَصْرِ أَمْبُوَاز” خَمْسَ سِنِينَ (1848-1852م)، لَمْ يَلِنْ لَهُ خَاطِرٌ، وَلَمْ يَنْكَسِرْ لَهُ نَاظِرٌ. حَوَّلَ سِجْنَهُ إِلَى مِحْرَابٍ لِلْعِبَادَةِ، وَمَدْرَسَةٍ لِلْإِفَادَةِ، حَتَّى أَطْلَقَ سَرَاحَهُ “نَابِلْيُون الثَّالِثُ” سَنَةَ (1852م)، فَخَرَجَ مِنْهَا مَرْفُوعَ الْهَامَةِ، مُتَوَجِّهًا إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ فِي “بروسة”، ثُمَّ اسْتَقَرَّ بِهِ الْمَقَامُ فِي “دِمَشْقَ الشَّامِ” سَنَةَ (1856م). وَفِي دِمَشْقَ، يَا عِبَادَ اللَّهِ، بَزَغَتْ شَمْسُ “الْأَمِيرِ الْعَارِفِ” وَ “الْإِنْسَانِ الْكَامِلِ”. لَمْ يَرْكَنْ إِلَى الدَّعَةِ وَالرَّاحَةِ، بَلْ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدِ الْعِلْمِ، فَجَلَسَ لِلتَّدْرِيسِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، يُفَسِّرُ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَشْرَحُ حَقَائِقَ السُّنَّةِ، حَتَّى ذَاعَ صِيتُهُ، وَقَصَدَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ كُلِّ حَدْبٍ. وَأَلَّفَ فِي تِلْكَ الْحِقْبَةِ كِتَابَهُ الْخَالِدَ “الْمَوَاقِف”، الَّذِي سَكَبَ فِيهِ خُلَاصَةَ تَجْرِبَتِهِ الرُّوحِيَّةِ، وَأَلَّفَ “الْمِقْرَاضَ الْحَادِّ” ذَبًّا عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ، وَدَحْضًا لِشُبُهَاتِ اللِّئَامِ. وَمِنْ أَعْظَمِ مَوَاقِفِهِ الَّتِي أَذْهَلَتِ الْعَالَمَ، وَسَارَتْ بِهَا الرُّكْبَانُ، مَا صَنَعَهُ فِي “فِتْنَةِ دِمَشْقَ” سَنَةَ (1860م). حِينَ هَاجَتِ الْفِتْنَةُ الْعَمْيَاءُ بَيْنَ الطَّوَائِفِ، وَاسْتُبِيحَتِ الدِّمَاءُ، وَقَفَ الْأَمِيرُ الْجَزَائِرِيُّ كَالْأَسَدِ الْهَصُورِ، يَدْفَعُ الْأَذَى عَنِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ النَّصَارَى، وَيُجِيرُهُمْ فِي دَارِهِ، وَيَحْمِيهِمْ بما استطاع، قَائِلاً لِلْغَوْغَاءِ: “إِنَّ تَعَالِيمَ دِينِي تَأْمُرُنِي أَنْ أُجِيرَ مَنِ اسْتَجَارَ بِي، وَأَنْ أَحْقِنَ الدِّمَاءَ”. بِهَذَا الْمَوْقِفِ النَّبِيلِ، أَعْطَى لِلْعَالَمِ دَرْسًا فِي سَمَاحَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَثْبَتَ أَنَّ الْفَارِسَ لَا يَكُونُ إِلَّا نَبِيلاً، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَكُونُ إِلَّا رَحِيمًا. فَاعْتَرَفَ لَهُ مُلُوكُ الْأَرْضِ بِالْفَضْلِ، وَأَكْبَرَهُ الْعَدُوُّ قَبْلَ الصَّدِيقِ. وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، صَائِمًا قَائِمًا، عَالِمًا مُعَلِّمًا، ذاكِرًا لله، حَتَّى وَافَاهُ الْأَجَلُ الْمَحْتُومُ فِي دِمَشْقَ، سَنَةَ (1883م)، وصُلي عليه في الجامع الأموي، في مشهد حافل. وَلَكِنَّ رُوحَهُ ظَلَّتْ تُرَفْرِفُ فَوْقَ جِبَالِ الْجَزَائِرِ، تَسْتَنْهِضُ الْهِمَمَ، حَتَّى بَزَغَ فَجْرُ الِاسْتِقْلَالِ، فَعَادَ رُفَاتُهُ الطَّاهِرُ إِلَى أَرْضِ الْوَطَنِ فِي ذِكْرَى الِاسْتِقْلَالِ سَنَةَ (1966م)، لِيُوَسَّدَ فِي تُرَابِهَا الَّذِي أَحَبَّهُ، شَاهِدًا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادُ اللَّهِ الصَّالِحُونَ. أَيُّهَا الْجَزَائِرِيُّونَ: هَذَا هُوَ أَمِيرُكُمْ، وَهَذَا هُوَ رَمْزُكُمْ، جَمَعَ بَيْنَ السَّيْفِ وَالْقَلَمِ، وَبَيْنَ الْإِمَارَةِ وَالْوِلَايَةِ، وَبَيْنَ الْوَطَنِيَّةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، فَخُذُوا مِنْ سِيرَتِهِ نِبْرَاسًا لِبِنَاءِ جَزَائِرِ الْغَدِ، جَزَائِرِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، جَزَائِرِ الْعِزَّةِ وَالْكَرَامَةِ، مُتَمَسِّكِينَ بِحَبْلِ اللَّهِ الْمَتِينِ، وَسَائِرِينَ عَلَى نَهْجِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبْدَكَ الْأَمِيرَ عَبْدَ الْقَادِرِ، وَاجْزِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْجَزَائِرِ خَيْرَ الْجَزَاءِ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي عِلِّيِّينَ، مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.
الجزء الثالث والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر