تعمّد الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوانه المتواصل على غزة خلق حالة من الفوضى، واستخدم كل أساليبه لتجريد القطاع من كل ما يشير إلى المدنية، فلم يوجه بنادقه نحو البشر فحسب، ولم يشبع من دماء عشرات آلاف الضحايا، بل دمّر مكتبات ومستشفيات ومدارس، في محاولة لجعل القطاع أرضاً قفرة لا عمار فيه ولا بشر. كما استقصد اغتيال كل ما يشير إلى إرث تاريخي أو حضاري للمدينة التي وصفها المؤرخ المقدسي عارف العارف عام 1943، في كتابه “تاريخ غزة”، بـ “بنت الأجيال”، في إشارة إلى عراقة تاريخها، الضاربة جذوره إلى قرونٍ بعيدة قبل الميلاد، إذ قال: “هي بنت الأجيال المنصرمة، ورفيقة العصور الفائتة، من اليوم الذي سطّر التاريخ فيه صحائفه الأولى إلى يومنا هذا”.
وقصفت آلة الحرب الصهيونية مبنى الأرشيف المركزي وسط مدينة غزة، وأحرقت آلاف الوثائق التي تؤرخ للقطاع وتوثّق مباني المدينة الأثرية ومراحل تطورها العمراني، بالإضافة إلى مخطوطات لشخصيات وطنية، ويرجع عمر بعضها إلى ما يزيد عن القرن ونصف القرن. ودمرت قوات الاحتلال مركز رشاد الشوا الثقافي؛ حيث ألقى رئيس جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا محاضرات، واستضاف قبل نحو 25 عاماً محادثات السلام بين ياسر عرفات وبيل كلينتون. ودمرت المكتبة الرئيسية التي كانت مقصداً لكل طالب علم من أبناء القطاع المحاصر، بالإضافة إلى متحف خان يونس، وذلك على الرغم من مناشدة منظمة يونيسكو بعدم استهداف الممتلكات الثقافية أو استخدامها لأغراض عسكرية. واستهدفت مكتبة سمير منصور الشهيرة التي تعدّ واحدة من أكبر دور النشر والتوزيع في القطاع. كما استهدف القصف الإسرائيلي مكتبات “اقرأ” و”الرؤية” و”النهضة”، وعدداً من المراكز الثقافية والمساحات الفنية، والمراكز المختصة في مجالات العلوم والأبحاث والتدريب.
وتزامن تدمير المواقع الثقافية في غزة مع سرقة الممتلكات من بيوت الغزيين وتخريب المواقع الأثرية، وهذه الممارسات ليست وليدة لحظتها، بل تستند على تراث من الانتهاكات التي تعود ملامحها الأولى إلى ما يقارب 75 عاماً. إذ تسعى إسرائيل لاقتلاع الفلسطينيين من جذورهم، ويشير المفكر الفرنسي المناهض للصهيونية، جيل دولوز، أن الهدف الأساسي لهذا الكيان هو “تفريغ الأرض الفلسطينية، ومحاولة إظهارها أرضاً فارغة مخصصة للصهاينة”.
وقد ذهب تيار من المؤرخين الإسرائيليين الجدد إلى الاعتراف ببعض ما اقترفه المحتلون من أجدادهم بحق الفلسطينيين، فكشف المؤرخ غيش عميت، في كتابه “بطاقة ملكية: تاريخ من النهب والصون والاستيلاء في المكتبة الوطنية الإسرائيلية” الصادر عام 2016، عن عمليات سرقة الكتب التي قامت بها عصابات الهاغاناه من بيوت المقدسيين بعد أشهر من الاحتلال، إذ استولت برفقة أكاديميين من الجامعة العبرية على أكثر من 30 ألف كتاب من بيوت ومكتبات الفلسطينيين الذين هُجروا بالقوة من منازلهم، ودفن جزء كبير منها في أقبية “المكتبة الوطنية الإسرائيلية” تحت اسم “أملاك مهجورة”، كمحاولة لتورية حقيقة أنها ليست إلا أملاكاً مسروقة، مبررة عملية النهب الممنهجة بأنها تنقذ الكنوز الثقافية من التلف.
وبعد النكبة بعشرة أعوام، أتلفت إسرائيل نحو 27 ألف كتاب من ممتلكات الفلسطينيين، بدعوى أنها من دون قيمة أو لكونها ذات خطاب خطير على الدولة.
عند الحديث عن سياسة الاستعمار، لا يمكن أن نغفل السياقات الحضارية والثقافية، لا سيما في معرض الحديث عن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، إذ تتصل عمليات النهب والتدمير والتهجير بشكل مباشر بسياسة ديفيد بن غوريون، والتي استمرت في سياقها التاريخي المتصل حتى اللحظة. وبن غوريون نفسه عبر عن تراث النهب الصهيوني في مقولته الشهيرة: “لقد تبيَّن أن معظم اليهود لصوص، أقول ذلك بصورة متعمدة وببساطة، لأن هذه هي الحقيقة للأسف”.
ق\ث