أجمع الفاعلون في القطاع السينمائي على أن الجزائر لم تعرف منذ استقلالها مكاسب مثل تلك التي تحققت في عهد الرئيس عبد المجيد تبون، وآخر هذه المكاسب صدور القانون المتعلق بالصناعة السينماتوغرافية وتدشين ولأول مرة في تاريخ الجزائر لمعهد عالي للسينما، وذلك في ظل اهتمام بالغ توليه السلطات العمومية لتطوير الفن السابع، بتوجيهات من رئيس الجمهورية.
ويهدف القانون المتعلق بالصناعة السينماتوغرافية، الذي صدر بالجريدة الرسمية في أفريل الماضي، إلى إيجاد ديناميكية اقتصادية حقيقية في هذا المجال بترقية الاستثمار ودعم المشاريع الخاصة. وقد جاء فيه أن الوزير المكلف بالثقافة وبالتنسيق مع القطاعات والهيئات المعنية يقوم بـ “إعداد السياسة الوطنية في مجال الصناعة السينماتوغرافية والسهر على تنفيذها”، حيث تهدف هذه السياسة الوطنية إلى “التطوير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي” لهذه الصناعة و”تكييفها مع التطورات والابتكارات التكنولوجية”.

كما تهدف هذه السياسة الوطنية إلى “تطوير وترقية الاستثمار في الصناعة السينماتوغرافية” و”ترقية الذوق الفني والثقافة السينمائية للمواطن الراسخة في القيم الوطنية والمتفتحة على العالم” و”الحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيز اللحمة الوطنية” وكذا “تثمين الأحداث التاريخية ومآثر المقاومة الوطنية والثورة التحريرية”، بالإضافة إلى “التعريف بالتاريخ وتثمين الذاكرة الوطنية” و”الترويج للوجهة السياحية للجزائر”.
وقد جاء أيضا في هذا القانون أن “نشاطات إنتاج وتصوير وتوزيع واستغلال الأفلام السينمائية تمارس بحرية في ظل احترام الدستور وقوانين الجمهورية والقيم والثوابت الوطنية، وكذا الدين الإسلامي والمرجعية الدينية الوطنية والديانات الأخرى والسيادة الوطنية والوحدة الوطنية ووحدة التراب الوطني والمصالح العليا للأمة ومبادئ ثورة نوفمبر 1954” وكذا “كرامة الأشخاص” و”عدم التحريض على خطاب التمييز والكراهية”.
كما جاء كذلك أن “إنتاج أفلام تتناول أحداث ورموز فترة المقاومة الشعبية والحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954 يخضع إلى رخصة مسبقة يسلمها الوزير المكلف بالمجاهدين وفقا للتشريع الساري المفعول”. وأما “إنتاج وتوزيع واستغلال الأفلام التي تتناول المواضيع الدينية والأحداث السياسية والشخصيات الوطنية ورموز الدولة، فيخضع لأخذ رأي استشاري من الهيئات المعنية”.
ويضم القانون عدة فصول حول ممارسة النشاطات المتعلقة بالصناعة السينماتوغرافية، تفصل بوضوح في مواضيع “الإنتاج السينمائي” و”التوزيع السينمائي” و”الاستغلال السينمائي”. وأما فيما يتعلق بـ “التأشيرات”، فإنه “تنشأ لدى الوزير المكلف بالثقافة لجنة مشاهدة الأفلام” والتي “تبدي رأيها بخصوص منح تأشيرة الاستغلال السينمائي بالنسبة لكل فيلم..”.
وفيما يخص دعم السينما، فإن “الدولة تعمل على ترقية الاستثمار والشراكة في الصناعة السينماتوغرافية وتشجيعها وفق ما هو منصوص عليه في التشريع والتنظيم الساري المفعول، وبموجب أي أحكام يتم تخصيصها لهذا الغرض”، حيث “يستفيد المستثمرون في المجالات المتعلقة بالصناعة السينماتوغرافية من المزايا والتدابير التحفيزية المنصوص عليها في التشريع والتنظيم الساري المفعول”.
من جهة أخرى، كان إنشاء أول معهد وطني عالي للسينما سابقة في تاريخ الجزائر يحمل اسم “محمد لخضر حمينة”، وذلك بعد أن أسست الجزائر في 2022 أول ثانوية وطنية للفنون باسم “علي معاشي” والتي تعتبر الوحيدة من نوعها على المستوى الإفريقي تشمل تخصصات فنية بما فيها السمعي-البصري.
وتمّ في الفاتح من أكتوبر المنصرم بالقليعة بولاية تيبازة، افتتاح هذا الصرح الثقافي، التابع لوزارة الثقافة والفنون، والذي استقبل أول دفعة من الناجحين في شهادة البكالوريا بثانوية “علي معاشي” للفنون بمناسبة انطلاق الموسم الجامعي للمؤسسات الثقافية 2024/ 2025.
ويضمن المعهد العالي للسينما، كمؤسسة عمومية رائدة في التكوين العالي، تخصصات بنظام “ليسانس – ماستر – دكتوراه”، وفق نظام جذع مشترك خلال السنة الأولى من التكوين، على أن يتم توجيه الطلبة للتخصصات خلال السنة الثانية والمتمثلة في الصناعات السينماتوغرافية عموما.
من جهة أخرى، وفي إطار النهوض بقطاع السينما، تم أيضا الإعلان عن قرار رئيس الجمهورية بشأن إعادة فتح صندوق دعم السينما والآداب والفنون في إطار قانون المالية لسنة 2025، وهو الصندوق الذي طالب الفنانون بإعادته بعد أن تم إغلاقه في أواخر 2021.
وضمن هذه الحركية، تمّ كذلك تنظيم لقاء وطني حول “آليات الاستثمار في مجال الصناعة السينماتوغرافية” من طرف وزارة الثقافة والفنون بالشراكة مع الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار في فيفري الماضي بالعاصمة، كان من أهم مخرجاته قيام هذه الوكالة بإدراج قطاع الصناعات السينماتوغرافية ضمن أولويات الاستثمار في الجزائر، على غرار قطاعات اقتصادية هامة.
فيلم “الأمير عبد القادر”… لحظة فارقة

وفي لحظة فارقة من مسار استعادة السرد الوطني الجزائري وتثمين رموزه التاريخية، تسلّمت المؤسسة العمومية “الجزائري” التقرير النهائي للجنة الاستشارة والخبرة المكلفة بمرافقة مشروع الفيلم السينمائي الوطني حول شخصية الأمير عبد القادر، مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، ورمز المقاومة والسيادة.
وتزامن ذلك مع الاحتفال بالذكرى الـ 63 لعيد الاستقلال.
ويمثل التقرير ثمرة أشهر من العمل البحثي والتوثيقي المكثف الذي قامت به لجنة متخصصة تضم نخبة من المفكرين والمثقفين، تحت إشراف الدكتور جمال يحياوي. وقد تمحورت مهمة اللجنة حول تقديم تصور متكامل لسيناريو فيلم عالمي المستوى، يجمع بين الأمانة التاريخية والرؤية الفنية المعاصرة، في تناول سيرة شخصية لعبت دورًا محوريًا في تشكيل الوعي الوطني.
هذا التحضير لا يهدف فقط إلى سرد الأحداث التاريخية الكبرى، بل يسعى إلى بناء سرد بصري ودرامي يُعيد تقديم الأمير عبد القادر للأجيال الجديدة وللعالم، بعيدًا عن الصور النمطية أو التناول السطحي الذي لطالما طغى على بعض الأعمال السينمائية العربية. وليست المبادرة مجرد مشروع سينمائي، بل هي جزء من رهان ثقافي وسياسي أشمل، يتمثل في إعادة بناء الذاكرة الوطنية على أسس بصرية حديثة، تُوظف فيها السينما كأداة تربوية وقوة ناعمة في آن واحد. وقد أشار وزير الثقافة زهير بللو إلى أهمية استثمار ما تزخر به الجزائر من شواهد تاريخية وطبيعة خلابة، لترسيخ صورتها كوجهة سينمائية عالمية.
وفي هذا السياق، فإن إنتاج فيلم عن الأمير عبد القادر لا يجب أن يُختزل في بعده المحلي، بل ينبغي أن يكون عملًا سينمائيًا ذا بعد إنساني عالمي، يعكس قيم الحوار، والتسامح، والمقاومة من أجل الكرامة، وهي القيم التي جسدها الأمير في حياته.
رغم الأهمية الرمزية الكبيرة للمشروع، إلا أن الرهان الحقيقي يبدأ بعد هذا التقرير. فالتحديات تتوزع بين الجوانب الفنية (الإخراج، التمثيل، الكتابة السينمائية)، والتمويل، وآليات التوزيع الدولي، لضمان ألا يكون الفيلم مجرد عمل محلي محدود الأثر.
التجارب السينمائية العالمية في مجال السير الذاتية التاريخية (مثل “غاندي” أو “الملك ريتشارد”) تثبت أن نجاح هذا النوع من الأفلام يرتكز على التوازن بين العمق التاريخي والجاذبية الدرامية، وبين الرسالة الوطنية والانفتاح العالمي.
وفي ظل ما تشهده المجتمعات من حروب سردية وتزييف للحقائق التاريخية، تبرز أهمية المشروع ليس فقط في إعادة الاعتبار للأمير عبد القادر، بل في تعزيز سيادة الجزائر على ذاكرتها الجماعية. وقد يكون هذا الفيلم نموذجًا يُحتذى به في التعامل مع رموز أخرى في التاريخ الوطني.
ومشروع فيلم “الأمير عبد القادر” خطوة جريئة نحو توطين السينما كوسيلة لصناعة الذاكرة وبناء الوعي، خاصة في ظل التحديات الثقافية التي تواجهها الجزائر اليوم. وإذا ما حُسن تنفيذه، فسيكون هذا العمل بداية لمرحلة جديدة من الإنتاج الثقافي الوطني الذي يُخاطب العالم بلغة الفن، ويخاطب الشعب بلغة التاريخ الحيّ.
ق\ث