إن من أعظم الأسباب التي يقسو بها القلب ويفسد، ويشوش بها الذهن وينشغل كثرة الخلطة مع الناس، إلا خلطة الصالحين وطلبة العلم، خلطة غير الصالحين: وقوع في الأعراض، وسعي في غيبة ونميمة. خلطة غير الصالحين: فساد للطبع واكتساب للأخلاق الرديئة؛ لذا جعلها ابن القيم داءً؛ لأنها تؤثر امتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود، فيوجب له تشتتًا وتفرقًا وهمًّا وغمًّا، وضعفًا، وحملًا لِما يَعجِز عن حمله مِن مؤنة قرناء السوء، وإضاعة مصالحه، والاشتغال عنها بهم وبأمورهم، وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم، فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟
ثم يعقب ابن القيم رحمه الله بقوله: هذا، وكم جلبت خلطة الناس من نقمة ودفعت من نعمة؟ وأنزلت من محنة، وعطَّلت من منحة، وأحلت من رزية، وأوقعت في بلية؟ وهل آفة الناس إلا الناس؟ كما قال تعالى: ” وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ” الفرقان: 27 – 29، وقال تعالى ” الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ” الزخرف: 67، فإذا كانت خلطة الناس ومجالستهم بهذا الضرر على القلب، فقد منحك الله فرصة تحمي بها قلبك وتزيل ما علِق به من الأدناس والأرجاس، فالحجر الصحي والابتعاد عن خلطة الناس فيه ما يزجر عن هذه المعايب، ويبصر بتلك المثالب، فلا بد للمرء من وقت يختلي فيه بنفسه، فيحاسبها وبقلبه، فيطهره مما علق به، كما روي عن عمر رضي الله عنه: “خذوا حظَّكم من العزلة”، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لوددت أن بيني وبين الناس بابًا من حديد، لا يكلمني أحد ولا أكلمه، حتى ألقى الله سبحانه. ومن أعظم مِنَح الحجر الصحي التي تعين على علاج القلب وإصلاحه:
– التفرغ للعبادة، والاستئناس بمناجاة الله سبحانه، فإن ذلك يستدعي فراغًا، ولا فراغ مع المخالطة، فالعزلة وسيلة إلى ذلك.
– صيانة الدين عن الخوض في الجدال والخصومات والفتن.
– السلامة والخلاص من شر الناس، وانقطاع طمع الناس فيك، فرضاهم غاية لا تدرك، وانقطاع طمعك فيهم ودنياهم، فإن خلطة كثير منهم تظلم القلب، بل رؤية بعض الناس تجعل قلبك قاسيًا.
وكل ذلك دواء لقلبك، واعلَم أن سلامة قلبك من الشبهات، لا تكون إلا بالتفرغ له، فإذا تعهَّدته كنت من أصحاب القلوب السليمة التي تكون سببًا في نجاتك يوم القيامة، “يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” الشعراء: 88-89.