كان الطقس باردا والسماء ملبدة بغيوم قاتمة، حينما فتحت شوقية شباك النافذة وأخذت تتأمل ذلك الجو الكئيب الذي ارتدته الطبيعة دونما سابق انذار، وقد كانت بالأمس سماء صافية تتربع وسطها قرص شمس ساطعة ذهبية، تأملته قليلا ثم أقفلت الشباك ورددت في نفسها، يا لعظمة الخالق وغرابة تقلبات الكون العجيبة، اليوم نقيض البارحة..
توجهت نحو المطبخ أخذت المغلاة وضعت بها كمية من الماء ثم أشعلت الموقد وتركتها عليه.. مرت لحظات قليلة بدأت فققايع الماء المغلى تطفح على سطح المغلاة، فأسرعت شوقية إليها وأفرغت عليها كمية من الشاي وبعض السكر، أصبح الشاي جاهزا، ملأت كوبا منه زينته بوريقات صغيرة من النعناع الأخضر وذهبت إلى غرفة الاستقبال، جلست على الأريكة وشرعت ترشف شايها ببطء وتأن وتغمض عينيها البنيتين الجميلتين كلما أحست بسخونة الشاي تلهب حلقها، لم يكن في البيت أحد سواها، كان زوجها مسافرا في مهمة عمل بفرنسا وكانت تنتظر اتصاله على أحر من الجمر حتى أنها عزفت عن حضور الملتقى الأدبي الذي دعيت إليه، والذي يفترض أن تكون عضوا مهما في سيرورته، فقد كانت من الأديبات القليلات في عصر كثر فيه المبدعون وأشباه المثقفين وكأن الأدب حرفة يرجى من ورائها مال وفير وجاه كبير، بينما لو رجعنا إلى تاريخ الأدب وبحثنا في حياة الأدباء لوجدناهم أفقر الناس مالا
وأحوجهم إلى السلطة والجاه وصولا لأنهم رغم علمهم وثقافتهم الواسعة يحيون حياة البؤس والحرمان.. لكن الوضع بالنسبة لشوقية كان مختلفا لأنها تنعم ببعض العيش الرغيد بفضل زوجها الذي كان نشيطا لا يتوقف عن العمل حتى يوفر لها كل متطلبات الحياة، تنهدت بعمق وهي تنظر إلى الهاتف الموضوع على طاولة بإحدى زوايا الغرفة، بدأ القلق يستولي على أعصابها، لكنها كانت تكبح جماحه حتى لا يظهر على ملامحها ورن جرس الهاتف أخيرا فوضعت كوب الشاي جانبا ثم نهضت بخفة الريشة، أخذت السماعة وقالت بلهفة واضحة:
ألو..
طالعها صوت رجالي على الخط الآخر قائلا:
ألو شوقية، كيف حالك حبيبتي؟
تصاعد الدم إلى وجهها، فاحمرت بشرتها البيضاء ثم قالت والفرح يدغدغ أوتار قلبها:
نعم حبيبي هل أنت بخير؟ متى ستعود اشتقت لك كثيرا.
وأنا أيضا، انتظريني في المطار كالعادة، في الخامسة مساء إلى اللقاء.
وأقفل الخط من الطرف الآخر ووضعت شوقية سماعة الهاتف ثم ذهبت مسرعة إلى غرفة النوم فتحت الخزانة وأخذت تتأمل الملابس المرتبة بعناية حسب الشكل واللون، لتختار البدلة المناسبة التي سترتديها غدا لاستقبال زوجها..
اقترب الليل شيئا فشيئا، كما يزحف جيش كامل العدة والعدد من بلاد بعيدة لموطن العدو وأقفلت شوقية النوافذ والأبواب بإحكام، تناولت بعض الحساء الساخن ثم اندست في سريرها لتنام، كانت تشعر بسعادة عارمة تملأ قلبها وكان السكون يعم الغرفة، مما جعل من صوت المطر الغزير وهو يهطل نغمات موسيقية عذبة تؤنس وحدتها وتشاركها فرحتها بعودة زوجها، لقد كانت تحب النوم في الليالي الممطرة حينما تتوقف الحركة والحياة ويصبح لحبات المطر لحنا موسيقيا شجيا يطرب أذنيها الذواقتين لأعذب الألحان.
أقبل الصبح وأصبح الزمن يمر ببطء وشوقية تنتظر حلول المساء ….
ومضت الساعات على أية حال، ارتدت شوقية أجمل أثوابها بعدما سرحت شعرها ووضعت بعض المساحيق على وجهها، ثم خرجت من بيتها، استقلت سيارتها وانطلقت صوبا إلى المطار، مرت لحظات بعدها كانت شوقية تقف في قاعة الانتظار المخصصة للمسافرين العائدين، أخذت تتأمل حولها بشغف ولهفة لم تخفهما كثرة المساحيق التي وضعتها واكتسحت جسدها الممتلئ رعشة خفيفة، لذيذة وهي ترى زوجها بقامته المديدة وبذلته البنية اللون يتفحصها بعينيه ويقترب نحوها، تقدمت إليه وقلبها يكاد يتوقف من شدة الغبطة والسرور، وما إن أصبحا قريبين من بعض حتى وضع الرجل حقيبته على الأرض وضمته زوجته بلهفة وحنان الأم على ولدها العائد بعد طول انتظار.
بقلم: القاصة أمل عسول