مشروع العمر

 مشروع العمر

لقد أضاءت سماءَ الدنيا على مرِّ العصور نجومٌ خلَّدها التأريخ، قدَّموا مشاريعَ رائدةً، تخدم الإنسانية في الدعوة والعلم والجهاد والتعاملات، وغيرها الكثير، وسأقتصر على ذكر أمثلة لما بعد جيل صحابة رسول الله الكِرام رضوان الله عليهم، الذين هم بلا شكٍّ مناراتٌ للاقتداء بهم في منهاج حياتهم، فإن أحدًا لا يختلف على أفضلية الاقتداء بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لحديث: “خير القرون قرني الذي بُعثتُ فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم”. ومن هذه الأسماء التي خلَّدها التأريخ في مجال الدين والدعوة إلى الله: الشيخان: البخاري، ومسلم رحمهما الله، حيث نذرا نفسيهما لجمعِ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذ الشيخان في جمع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وَفْق ضوابط فحصٍ دقيقةٍ، لم يحيدَا عنها قِيدَ أنملة، يقول الإمام النووي: اتفق العلماء على أن أصحَّ الكتب بعد القرآن الكريمِ الصحيحان: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وقد تلقَّتهما الأمَّة بالقَبول.

وقد يتعلَّل البعض أو يشكو من قلة الإمكانات، فهلا تأسَّى هذا بأبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام، عندما أمره الربُّ سبحانه أن يُؤذِّن في الناس بالحج، كما في قوله تعالى: ” وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ” الحج: 27، يقول ابن كثير: ذُكر أنه قال: يا رب، كيف أبلِّغ الناس، وصوتي لا ينفذهم؟ فقال: نادِ، وعلينا البلاغ.  أما من يتحجَّج بالمعوِّقات، فلينظر في قصة أصحاب الرقيم التي ورد ذكرُها في قصة أصحاب الكهف، يقول تعالى: ” أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ” الكهف: 9، فليتقوَّ بعزيمتهم وإصرارهم على تبليغ دعوة الحق لقومهم الذين كانوا يعبدون الأصنام؛ خوفًا من ملِكِهم صاحب الجبروت، الذي لم يترك لشعبه حريةَ العبادة، ولا لهؤلاء الفتية حريةَ الدعوة، ففرُّوا إلى كهف؛ مخافةَ البطش، ولكن الدعوة كانت هاجِسَهم؛ فدوَّنوا منهجهم على صخرةٍ لحفظه خشيةَ أن يموتوا دون أن يتمكَّنوا من تبليغها للناس، يقول ابن عباس رضي الله عنهما، لما سئل عن معنى الرقيم: الرقيم لوح من حجارة، كَتب فيه أصحابُ الكهف قصتَهم، ثم وضعوه على باب الكهف” تفسير ابن كثير.

 

أما أولئك الذين يستصغرون بعضَ المشاريع الصغيرة المتاحة التي قد ينظر لها البعضُ نظرةً دونيةً أو أنها حقيرة، فليتأمَّلوا قصةَ تلك المرأة التي كانت تقُمُّ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ماتت ذات ليلة في ساعةٍ متأخِّرةٍ، فصلَّى عليها بعضُ الصحابة ودفنوها، دون أن يُخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونها في نظرهم ليست ذاتَ شأنٍ في مجتمع المدينة النبوية، وفي الصباح لما دخل الرسول عليه السلام، لم يرَ المرأة تُنظِّف المسجد كعادتها، فسأل عنها، فأخبروه أنها ماتت ودُفنت في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، فقال لهم: “أفلا آذنتموني؟!”؛ أي: أخبرتموني، ثمَّ ذهب بعد ذلك إلى المقبرة وصلى عليها، ودعا لها؛ وما ذلك إلا لعظيم صنيعِها، ورفعةِ مكانتها.