بين شرف المكان والزمان.. معان روحية تسمو بالمؤمن في ليلة مباركة

مشايخ ودعاة يدعون إلى التراحم والتقرب إلى الله في  ليلة النصف من شعبان بجامع الجزائر

مشايخ ودعاة يدعون إلى التراحم والتقرب إلى الله في  ليلة النصف من شعبان بجامع الجزائر

في ليلة ملؤها النور والسكينة، اجتمع العلماء والمصلون في رحاب جامع الجزائر، أحد أكبر صروح الإسلام في العالم، لإحياء ليلة النصف من شعبان.

هذه المناسبة التي تحظى بمكانة عظيمة في قلوب المسلمين، حيث ترفع فيها الأعمال إلى الله، وتتنزل فيها رحماته على عباده. وكانت الأمسية، فرصة عظيمة للتذكير بفضائل هذه الليلة المباركة، حيث تعاقب المشايخ والعلماء على تقديم مداخلاتهم التي استحضرت معاني الإيمان والصفاء الروحي، وربطت بين العقيدة والأخلاق، وبين تاريخ الأمة وواقعها المعاصر.

 

شعبان شهر الاستعداد والبركات..

افتتح الشيخ موسى إسماعيل كلمته بالترحيب بالحاضرين، مؤكدا أن اجتماع القلوب في ذكر الله والتوجه إليه بالدعاء من أعظم صور العبادة. ثم استعرض مكانة شهر شعبان في الإسلام، حيث قال مستلهما من الإمام عبد القادر الجيلاني، فإن كلمة “شعبان” مكونة من خمسة حروف، كل حرف يحمل معنى روحانيا ساميا؛ فالشين ترمز إلى الشرف، والعين إلى العلو، والباء إلى البر، والألف إلى الألفة، والنون إلى النور. ومن يجمع هذه الصفات في نفسه، فقد بلغ مقام القرب من الله.” ثم أشار الشيخ، إلى أن شهر شعبان هو شهر التهيئة الروحية لشهر رمضان، مستشهدا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألته السيدة عائشة رضي الله عنها عن سبب كثرة صيامه في شعبان، فقال: “ذلك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”.  ثم أكد على أن ليلة النصف من شعبان هي إحدى الليالي الخمس التي يستجاب فيها الدعاء.

 

ثنائية الزمان والمكان..  بين شرف الليلة وقدسية الجامع

بدوره تناول الشيخ إبراهيم أجرادي، أهمية هذه الليلة من زاويتين: شرف الزمان، وشرف المكان. فأوضح أن ليلة النصف من شعبان لها خصوصية روحية عظيمة، إذ شهدت تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وهو حدث شكل نقطة تحول في مسار الدعوة الإسلامية. كما أنها تميزت بوقوع معجزة انشقاق القمر، التي أيد الله بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لتكون حجة واضحة على صدق نبوته. أما عن شرف المكان، فقد سلط الشيخ الضوء على دور جامع الجزائر في نشر نور العلم والإيمان، مشيرًا إلى أن هذا الصرح الإسلامي لم يكن مجرد مسجد، بل كان منارة للعلم والتربية قبل أن يتعرض للطمس خلال فترة الاستعمار الفرنسي، حيث تم تحويله إلى كنيسة. لكنه عاد إلى أصله بعد الاستقلال، ليكون شاهدا على هوية الجزائر الإسلامية، وإرثها الديني العريق. كما أشار إلى أن الرئيس عبد المجيد تبون كان له الفضل في استكمال بناء هذا المسجد، ليكون تحفة معمارية وروحية تليق بمكانة الإسلام والمسلمين في الجزائر.

 

المغفرة مشروطة.. بين التوحيد وصلة الأرحام

من جانبه، ركز الشيخ كمال بوزيدي على البعدين العقدي والأخلاقي في هذه الليلة، حيث أكد أن ليلة النصف من شعبان ليست ليلة مغفرة مطلقة، بل هي مشروطة بعدم الشرك بالله، وبالمحافظة على صلة الأرحام. واستشهد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله يطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن”. ثم أوضح الشيخ، أن العبادة في الإسلام ليست مجرد صلاة وصيام، بل تشمل أيضا العلاقات الاجتماعية والأخلاقية، مشددا على أن قاطع الرحم يحرم من بركات هذه الليلة، مهما اجتهد في العبادات الأخرى. وأكد أن الإسلام جاء ليؤسس لمجتمع متماسك، تسوده المحبة والتراحم، وليس لعلاقات تقوم على القطيعة والبغضاء. كما دعا الحاضرين إلى اغتنام هذه الليلة في مراجعة أنفسهم، والسعي لإصلاح ذات البين، والتسامح مع من خاصموهم، لأن ذلك جزء من العبادة الحقيقية. وفي ختام الأمسية، أكد المشايخ على ضرورة الاستمرار في روحانية هذه الليلة، والاستعداد لشهر رمضان بقلوب صافية وأرواح نقية، داعين الجميع إلى التحلي بالقيم الإسلامية النبيلة، ونشر الخير والمحبة في المجتمع.

 

ليلة استثنائية في جامع الجزائر.. عبادة.. تأمل.. ومراجعة للنفس

هكذا اختتمت هذه الليلة العظيمة في جامع الجزائر حيث عاش الحاضرون تجربة روحانية عميقة جمعت بين الإيمان والمعرفة وبين الذكر والعمل، وبين الفرد والمجتمع. لقد كانت أمسية مميزة تذكر الجميع بأن الإسلام دين القلوب قبل أن يكون دين الجوارح، وأن المغفرة والرحمة لا تنال إلا بالقلب الصادق، والإيمان الخالص، والعلاقات الإنسانية السليمة. وفي ظل هذه الأجواء النورانية ودع الحاضرون هذا اللقاء بقلوب مطمئنة وأمل في أن يعودوا إلى بيوتهم وقد غفرت ذنوبهم، ومحيت خطاياهم، استعدادا لاستقبال شهر رمضان بصفحة بيضاء، وعزيمة صادقة على التقرب من الله، والإحسان إلى عباده.

تغطية – محمد بوسلامة