من رحم الثورة ووهج المعارك، وُلدت الدبلوماسية الجزائرية كصوتٍ للحرية ورسالةٍ للكرامة، تجاوز صداها حدود الوطن ليهزّ ضمير العالم، فمنذ نوفمبر 1954، لم تكن الجزائر تُحارب بالسلاح فقط، بل بالكلمة والموقف والمبدأ، لتواصل اليوم نهجها الثابت كقوة دبلوماسية تُجسّد روح الثورة في كل محفل دولي.
كيف مهدت الدبلوماسية الجزائرية طريق النصر؟
في خضم التحولات التاريخية الكبرى التي شهدها العالم منتصف القرن العشرين، برزت الدبلوماسية الجزائرية كأحد أعمدة النضال الوطني خلال الثورة التحريرية (1954 – 1962)، إذ لم تكن الثورة مجرد مواجهة مسلحة ضد الاستعمار الغاشم، بل كانت أيضًا معركة سياسية ودبلوماسية خاضتها الجزائر على الساحة الدولية بإصرار وحنكة، لتفرض صوتها في المحافل الأممية وتنتزع اعترافًا بشرعية كفاحها من أجل الحرية. منذ اندلاع الثورة في الأول من نوفمبر 1954، أدرك قادة جبهة التحرير الوطني أهمية البعد الدبلوماسي في تحقيق النصر، فأسسوا هياكل خاصة تُعنى بالعلاقات الخارجية ونقل القضية الجزائرية إلى العالم، وسرعان ما بدأ النشاط الدبلوماسي يأخذ شكلاً منظمًا عبر “بعثة جبهة التحرير الوطني” في القاهرة سنة 1955، والتي تحوّلت إلى مركز رئيسي للدبلوماسية الثورية، بفضل الدعم الذي وفرته مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، لتكون القاهرة أول منبر عربي ودولي يحتضن صوت الجزائر الحرة. اعتمدت الدبلوماسية الجزائرية خلال الثورة على استراتيجية مزدوجة تقوم على كسب التأييد العربي والإفريقي من جهة، وخلق ضغط دولي على فرنسا من جهة أخرى، وقد ساهمت المؤتمرات الدولية، وعلى رأسها مؤتمر باندونغ سنة 1955، في إتاحة الفرصة للوفد الجزائري لعرض قضيته أمام قادة العالم الثالث، فكان ذلك بداية تحول عميق في الوعي الدولي بقضية الجزائر. وشكل إدراج القضية الجزائرية على جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في 30 سبتمبر 1955 منعطفا تاريخيا في مسار الكفاح من أجل الاستقلال, وتميز خصوصا بالجهود الدبلوماسية الحثيثة التي بذلتها جبهة التحرير الوطني بهدف تدويل القضية الجزائرية. ففي ذلك اليوم المشهود, فتحت المجموعة الدولية لأول مرة الباب لنقاش رسمي حول حق الشعب الجزائري في تقرير المصير, مانحة بذلك شرعية دولية لنضال الشعب الحر، وهذا الانتصار الدبلوماسي الكبير جاء تتويجا لجهود جبهة التحرير الوطني الهادفة إلى تدويل القضية الجزائرية, والتي بدأت قبل أشهر خلال مؤتمر باندونغ بأندونيسيا (18-24 أبريل 1955). كما لعبت بعثات جبهة التحرير الوطني في العواصم العربية والإفريقية والأوروبية دورًا محوريًا في توسيع دائرة الاعتراف بالثورة، وقد استطاع الوفد الجزائري بفضل مهارته السياسية أن يجعل القضية الجزائرية بندًا دائمًا في جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ سنة 1957، وهو مكسب تاريخي مهّد للاعتراف الدولي بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره. ورغم بشاعة الاستعمار الفرنسي الغاش، فإنه وجد نفسه في نهاية المطاف محاصرا دبلوماسيًا بفضل الجهود الجزائرية التي كسبت تعاطف الرأي العام العالمي، وأحرجت باريس في المحافل الأممية، فقد تحولت القضية الجزائرية إلى رمز عالمي لمقاومة الاستعمار، وتصدّرت خطابات حركات التحرر في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، ما أكسب الثورة بعدًا إنسانيًا تجاوز حدودها الجغرافية. بلغت هذه الجهود ذروتها في مفاوضات إيفيان التي انطلقت سنة 1961، حيث أثبت المفاوض الجزائري نضجًا سياسيًا عميقًا وقدرة على الدفاع عن سيادة بلاده بثقة وواقعية. وبفضل تلك الجهود، تم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في مارس 1962، الذي أنهى 132 عامًا من الاستعمار الفرنسي، وكرّس استقلال الجزائر.
مدرسة فريدة في فن التفاوض والعمل السياسي
لقد شكّلت الدبلوماسية الجزائرية خلال الثورة التحريرية مدرسة فريدة في فن التفاوض والعمل السياسي تحت الاحتلال، إذ جمعت بين الصلابة المبدئية والمرونة التكتيكية، واستطاعت أن توظف قيم العدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها لكسب المعركة في الرأي العام الدولي. واليوم، وبعد أكثر من ستة عقود على استرجاع السيادة الوطنية ، ما تزال الجزائر تستلهم من تلك التجربة روحها الدبلوماسية القائمة على الدفاع عن القضايا العادلة، والتمسك بمبادئ السيادة وعدم الانحياز، نصيرةً لكل من يناضل من أجل الحرية والكرامة.
مسيرة ثبات ومبادئ عالمية
منذ استرجاع السيادة الوطنية عام 1962، خاضت الجزائر مسارًا دبلوماسيًا متفرّدًا رسّخ مكانتها كدولة ذات صوتٍ مسموع وموقفٍ ثابت في القضايا الدولية، فالدبلوماسية الجزائرية، التي وُلدت من رحم الثورة التحريرية، لم تتخلّ يومًا عن روحها النوفمبرية، بل جعلت من مبادئها مرجعًا في كل تحركاتها الخارجية، متمسّكة بالسيادة، وبحق الشعوب في تقرير مصيرها، وبالوقوف إلى جانب القضايا العادلة في العالم. كانت ستينيات القرن الماضي مرحلة التأسيس الفعلي للدبلوماسية الجزائرية المستقلة، فقد سعت الجزائر بقيادة الرئيس أحمد بن بلة إلى توطيد علاقاتها مع الدول الإفريقية والآسيوية التي نالت استقلالها حديثًا، وأسهمت في بلورة توجه عدم الانحياز، لتصبح في وقت قصير من أبرز المدافعين عن العالم الثالث ،كما احتضنت الجزائر سنة 1965 أول مؤتمر إفريقي آسيوي للتضامن مع الشعوب المستعمَرة، في رسالة واضحة تؤكد استمرار التزامها بنصرة قضايا التحرر. وفي عهد الرئيس هواري بومدين، عرفت الدبلوماسية الجزائرية أوجها الذهبي، فقد تحوّلت البلاد إلى قوة سياسية ذات وزن دولي، بفضل مواقفها الصلبة في القضايا الإقليمية والعالمية، من أبرز تلك المحطات رعايتها لمؤتمر حركة عدم الانحياز عام 1973، واحتضانها القمة الرابعة لمنظمة الوحدة الإفريقية، ثم مؤتمر منظمة البلدان المصدّرة للنفط (أوبك) الذي أعاد رسم معالم النظام الاقتصادي العالمي. كما برزت الجزائر كوسيطٍ نزيه في النزاعات الدولية، أبرزها وساطتها في الإفراج عن الرهائن الأمريكيين في طهران سنة 1981، وهو حدث رسّخ صورتها كقوة سلام ووساطة موثوقة. خلال التسعينيات، ورغم الأوضاع الداخلية الصعبة، حافظت الجزائر على استقلالية قرارها السياسي، وواصلت دعمها للقضايا المركزية وعلى رأسها القضية الفلسطينية والصحراء الغربية.
عودة قوية للدبلوماسية الجزائرية في مختلف المحافل الدولية
شهدت العهدة الأولى لرئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، عودة قوية للدبلوماسية الجزائرية في مختلف المحافل الدولية، على نحو عزّز مكانة الجزائر في العالم، بفضل الأداء الدبلوماسي الهام الذي هندسه رئيس الجمهورية، بما أسهم في تعميق مبادئ الدبلوماسية الجزائرية التي برزت كفاعل قوي في حلّ الأزمات ونشر السلم والأمن الدوليين. ومن بين المحطات الفارقة، كان الخطاب القوي الذي ألقاه رئيس الجمهورية، في الدورة الـ78 للجمعية العامة للأمم المتحدة، وأكد فيه التزام الجزائر بمبادئها الثابتة في نصرة القضايا العادلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية وحقّ الشعب الصحراوي في تقرير مصيره. وفي خطوة تاريخية، صادقت غالبية دول العالم في العاشر ماي 2024، على عضوية فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأتى ذلك ثمرة لدعم الجزائر المتواصل في كل اجتماعات مجلس الأمن الدولي، وجهودها الدؤوبة لإنهاء العدوان الصهيوني الهمجي على غزة والضفة، وشجبها المستمرّ للاعتداءات الصهيونية الدموية وانتهاكاتها المفضوحة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكانت مشاركة رئيس الجمهورية في قمة السبع بباري الإيطالية، منعطفاً شدّ أنظار المتابعين وطنياً ودولياً، وتميّز حضور الرئيس تبون بنشاط مكثف أجرى خلاله سلسلة لقاءات ومحادثات مع كبار قادة ورؤساء دول العالم ومسؤولي منظمات دولية وإقليمية وقارية.
الشريك الموثوق والصوت المسموع
تعدّ مشاركة رئيس الجمهورية في مختلف المحافل الدولية دليلاً على الدور الاستراتيجي للجزائر، وتأكيداً لمبادئ الجزائر الثابتة في الدفاع عن الشعوب المضطهدة وحقّها في تقرير مصائرها، وأتى هذا الدور المؤثر ليرسّخ تموقع الجزائر كشريك موثوق وصوت مسموع. إجمالاً، تعتبر الفترة ما بين عامي 2019 و2024، عنواناً كبيراً لعودة الجزائر القوية إقليميًا ودوليًا، حيث كان للجزائر حضورها الفاعل في حلحلة معضلات الصحراء الغربية وليبيا واليمن ومالي ومنطقة الساحل وغيرها من بؤر التوتر، والتأكيد على مواقفها الثابتة اتجاه المقاربات السلمية في حلّ هذه الأزمات. وشهدت القمة العربية الـ31 التي احتضنتها الجزائر (الفاتح والثاني نوفمبر 2022)، تحقيق نتائج استثنائية بفعل الرؤية التي طرحتها الجزائر، والجهود السياسية والدبلوماسية التي بذلتها في سبيل إنجاحها، والحرص الذي ظلّت الجزائر توليه لإعادة العمل العربي المشترك، إلى الواجهة. وتميّزت قمة الجزائر عن باقي القمم العربية، في النتائج المتمخضة عن اجتماع رؤساء الدول والحكومات العربية، وفي الرؤية الجديدة لدور الجامعة العربية، وفي تفعيل الارادة العربية المشتركة للردّ على التهديدات المتنامية داخل وخارج المنطقة العربية، وفي تفعيل عوامل القوة للوطن العربي، في معادلة التوازنات الاقليمية والدولية، لمرحلة ما بعد الأحادية الأمريكية، لصالح عالم متعدد الأقطاب. وكان تنظيم قمة الجامعة العربية في الجزائر، نقلة مفصلية وتاريخية بكل المقاييس، تمّ فيها لمّ الشمل لمقوّمات الوزن الإقليمي العربي، وكان لإعلان الجزائر، دفعاً قوياً نحو رؤية عربية جديدة، للذات وللعالم ولكيفية إعادة ترتيب وتفعيل موازين القوة لعالم يتغير بسرعة ولا يلتفت إلى الجمود والضعف. وجرى تتويج تلك القمة، بتكريس إعلان الجزائر لخمسة اتجاهات عربية كبرى، تصدّرها تأسيس لجنة وزارية عربية مفتوحة العضوية برئاسة الجزائر، للتحرك على المستوى الدولي لمساندة جهود فلسطين في نيل المزيد من الاعترافات والحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة وعقد مؤتمر دولي للسلام، وتوفير الحماية الشعب الفلسطيني. وفي مقاربته للقضية الفلسطينية، ركّز إعلان الجزائر على مركزيتها، بجانب تشديده على الدعم المطلق لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، بما فيها حقه في الحرية وتقرير المصير وتجسيد دولة فلسطين المستقلة كاملة السيادة على حدود الرابع جوان 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وحق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948. وبتاريخ السادس جوان 2023، تمكّنت الجزائر من العودة بقوة إلى الساحة العالمية من بوّابة مجلس الأمن الدولي الذي انتخبت فيه عضواً غير دائم للفترة ما بين سنتي 2024 و2025، في إنجاز دبلوماسي يؤكد مصداقيتها ومكانتها المرموقة وعلى عقيدتها الدبلوماسية في العالم. ولعلّ الثقة التي اكتسبتها الجزائر، دليل على أنّها أصبحت قوة استراتيجية وإقليمية من شأنها الإسهام بقسط كبير في تحقيق السلم والأمن الدوليين، والأكيد، أن القادم سيشهد المزيد من أدوار الجزائر الفاعلة في النظام العالمي الجديد، وسيعطيها العديد من الإحرازات الهامة.
الجزائر وسيط موثوق في النزاعات الإقليمية والدولية
تستحضر الجزائر الذكرى السبعين لثورتها التحريرية المجيدة وهي أكثر حضورًا وتأثيرًا على الساحة الدولية، محافظةً على الوفاء العميق لرسالة نوفمبر الخالدة في دعم قضايا التحرر والعدالة عبر العالم، فمنذ أن خاضت معركتها من أجل الاستقلال، أدركت الجزائر أن الكفاح لا ينتهي بانتهاء الاستعمار، بل يمتد عبر الدبلوماسية النشطة التي ترفع راية الحرية وتدافع عن قيم الإنسانية، في عالم يزداد تعقيدًا وتقلبًا. لقد كانت الدبلوماسية الجزائرية، منذ فجر الثورة، ركيزة أساسية في تدويل القضية الوطنية وتفنيد أطروحة “الجزائر فرنسية”، عبر حضورها الفاعل في المحافل الدولية، وتمسّكها بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرهاـ وبعد الاستقلال، واصلت الجزائر هذا النهج بثبات، لتتحول من بلد محرَّر إلى قوة اقتراح ووساطة في حلّ النزاعات الإقليمية والدولية، معتمدة رؤية تقوم على الحوار، واحترام سيادة الدول، والالتزام بالحلول السلمية. وفي ظلّ التحولات الراهنة، تواصل الجزائر أداء دور طلائعي في تسوية الأزمات الدولية بفضل دبلوماسية متزنة تجمع بين الصرامة في المواقف والمرونة في الأساليب، فقد أعادت سياستها الخارجية، بقيادة الرئيس عبد المجيد تبون، وهجها التاريخي، عبر مبادرات الوساطة والمرافعات الصريحة في الدفاع عن القضايا العادلة، وفي مقدمتها القضيتان الفلسطينية والصحراوية. وقد عزز هذا الموقف رصيد الجزائر الأخلاقي في العالم، وجعلها من الأصوات القليلة التي تظلّ وفية للمبادئ، بعيدة عن الاصطفافات والانحيازات الظرفية. وبانتخابها عضوًا غير دائم في مجلس الأمن منذ جانفي 2024، كرّست الجزائر حضورها الدبلوماسي المرموق، لتصبح منصة للسلام تدافع عن المظلومين وتناهض ازدواجية المعايير. فقد نجحت، باسم المجموعة العربية، في إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، مطالبةً بوقف العدوان على غزة وضمان دخول المساعدات الإنسانية، كما قادت مساعي حثيثة لتمكين فلسطين من العضوية الكاملة في الأمم المتحدة. وامتدت جهود الجزائر إلى الفضاء الإفريقي، حيث أسهمت في الحفاظ على وحدة الاتحاد الإفريقي والتصدي لمحاولات الاختراق الإسرائيلي، كما واصلت دعمها للحلول السلمية في ليبيا ومنطقة الساحل. وبذلك، أثبتت أنّها لا تزال وفية لجوهر ثورة نوفمبر، حين اختارت أن تكون صوتًا للسلام والكرامة في عالمٍ يزداد حاجة إلى المواقف الشجاعة والثابتة. لقد أثبتت الدبلوماسية الجزائرية، عبر عقود من العمل الصادق، أنها ليست مجرّد أداة في يد الدولة، بل امتداد لروح الثورة التحريرية التي جعلت من الجزائر وطنًا للسيادة والمبدأ، وقبلةً لكل من يؤمن بأنّ العدالة لا تموت ما دام في العالم من يدافع عنها.
أ.ر