يؤكد العلماء أن الحاجة إلى النوم قوية حتى أنها تتغلب على الحاجة إلى الأكل، فإن عقلك ينام رغم كل جهودك الواعية لمنعه من النوم، وإذا بقينا مستيقظين لأيام متواصلة تُصاب عقولنا باضطراب، ونصبح مزاجيين ونرى أشياء ليست موجودة في الواقع.
ومن المنطقي أن نسأل ما هي الفترة التي يمكن أن نبقى مستيقظين فيها، وما هي الآثار الناجمة عن البقاء دون نوم؟
مَنْ يحاول التوصل إلى إجابة عن هذا السؤال بالتجربة العملية، سيجد أن ذلك في غاية الصعوبة، ويقول ارين هانلون الذي يعمل مساعد أستاذ في مركز دراسة النوم والأيض والصحة في جامعة شيكاغو إن الحاجة إلى النوم قوية حتى أنها تتغلب على الحاجة إلى الأكل. ونقلت “بي. بي. سي” عن هانلون قوله “إن عقلك ينام رغم كل جهودك الواعية لمنعه من النوم”.
لماذا ننام أصلا؟
يبقى فهم السبب في حاجتنا إلى النوم لغزاً مغلقاً، ويقول هانلون إن وظيفة النوم على وجه التحديد ما زالت قيد البحث ولكن مما يفعله النوم على ما يبدو هو “إعادة ضبط” الأجهزة العاملة في أجسامنا، والأكثر من ذلك أن دراسات أظهرت أن النوم المنتظم ساعات كافية يساعد في الاستشفاء وعمل جهاز المناعة والتمثيل الغذائي على الوجه المطلوب والكثير غير ذلك. ولعل هذا هو السبب في شعورنا بالحيوية لدى الاستيقاظ بطاقة متجددة بعد أخذ قسط كاف من النوم.
من جهة أخرى، ترتبط قلة النوم بازدياد خطر الاصابة بأمراض السكري والقلب والبدانة والكآبة ومشاكل صحية أخرى. ولتفادي هذه الأمراض ينتابنا احساس غير مريح أثناء السهر، إذ نشعر باستنزاف طاقتنا والدوخة وبجفوننا تضغط على أعيننا المتعبة. ومع استمرارنا في مقاومة النوم تتضاءل قدرتنا على التركيز وبناء ذاكرة قصيرة الأمد.
وإذا تجاهلنا كل هذه الآثار الجانبية ونبقى مستيقظين أياماً متواصلة تُصاب عقولنا باضطراب، ونصبح مزاجيين ونرى أشياء ليست موجودة في الواقع.
ويقول اتول مالهورتا مدير قسم طب النوم في جامعة كاليفورنيا في مدينة سان دييغو إن الأشخاص يبدأون بالهلوسة ويُصابون بمس من الجنون.
وسجلت دراسات عديدة تدهور الجسم بالاقتران مع الحرمان من النوم، إذ تزداد هرمونات الضغط النفسي مثل الأدرينالين والكورتيزول في الدم ويؤدي هذا بدوره إلى ارتفاع ضغط الدم.
في هذه الأثناء تضطرب دقات القلب ويتداعى جهاز المناعة، بحسب مالهورتا.
لذا يشعر الأشخاص الذين لا ينالون كفايتهم من النوم بالتوتر العصبي وتزداد احتمالات إصابتهم بالمرض.
ولكن هذه كلها آثار يمكن معالجتها بتعويض ما فاتنا من النوم. وتنقل “بي. بي. سي” عن البروفيسور جيروم سيغل من مركز أبحاث النوم في جامعة كاليفورنيا في مدينة لوس انجلس، أن أي أضرار تحدث من جراء السهر أو الأرق مثلا أضرار ليست دائمة ويمكن أن تُعالج.
وإذا جفانا النوم بصورة دائمة؟
ولكن ماذا يحدث إذا تعذر علينا النوم تماما؟ الداء الوراثي النادر المعروف باسم الأرق العائلي القاتل يرسم صورة قاتمة للعواقب المترتبة على الحرمان من النوم فترة مديدة.
هناك نحو 40 عائلة فقط في أنحاء العالم مصابة بداء الأرق العائلي القاتل لأسباب وراثية.
فإن جيناً معطوباً واحداً يتسبب بتحول بروتينات في الجهاز العصبي إلى بريونات تفقد وظيفتها الطبيعية. ويقول مالهورتا إن البريونات هي بروتينات ذات أشكال غريبة تعبث بالجهاز العصبي للمصابين بداء الأرق العائلي القاتل، إذ تتجمع هذه البريونات في النسيج العصبي وتتلفه مؤدية إلى نشوء ثقوب في الدماغ. وإحدى مناطق المخ التي تتأثر نتيجة ذلك في الأشخاص المصابين بداء الأرق العائلي القاتل هي منطقة المهاد التي تتحكم بالنوم. ومن هنا الإصابة بهذا الأرق المنهك.
إذ يبقى المصاب بهذا الداء أياماً لا ينام فيها بالمرة وتظهر عليه أعراض غريبة مثل انقباض حدقة العين والتعرق الشديد.
وبعد أسابيع قليلة يُصاب المريض بما يشبه حالة النعاس قبل النوم ويبدو كأنه يمشي في نومه ويقوم بحركات عضلية لاإرادية مفاجئة كتلك التي نقوم بها حين يغلبنا النعاس، ويعقب ذلك انخفاض الوزن والخرف ثم الموت.
ولكن الحرمان من النوم بحد ذاته ليس سبب الوفاة لأن داء الأرق العائلي القاتل يؤدي إلى تلف واسع في الدماغ. ويقول البروفيسور سيغل إن فقدان النوم ليس هو الذي يقتل هؤلاء الأشخاص. وعلى الغرار نفسه، فإن أسلوب التعذيب المتمثل بحرمان المعتقل من النوم لا يتسبب بموت الضحية رغم معاناته الفظيعة.
وتوفر التجارب التي تُجرى على حيوانات مزيدا من الأدلة على أن الحرمان من النوم أو فقدانه بحد ذاته قد لا يكون مميتاً، ولكن ما يترتب عليه وما يسببه في المخ هو القاتل.
وأُجريت إبان الثمانينات في جامعة شيكاغو تجارب على فئران كانت تُحرم من النوم كلما شعرت بالنعاس. وبعد نحو شهر من هذه المعاملة هلكت جميع الفئران دون سبب واضح.
ويُرجح أن الضغط العصبي الناجم عن إبقائها مستيقظة هو سبب موتها بسبب ما أحدثه من انهاك لأجهزة الجسم.
ومن الأعراض الأخرى التي ظهرت على الفئران عدم انتظام حرارة الجسم وانخفاض الوزن رغم ازدياد الشهية.
وقال البروفيسور سيغل إن المشكلة في تفسير نتائج هذه الدراسات تتمثل في أن الانسان أو الحيوان لا يمكن أن يُحرم من النوم دون إحداث ضغط شديد على جهازه العصبي.
وإذا حدثت الوفاة يكون السؤال “هل الضغط العصبي هو السبب أم الحرمان من النوم؟ وأكد سيغل أن التمييز ليس سهلا.
الاستيقاظ ثم الاستيقاظ
قد لا تشجع هذه النتائج على معرفة حدود قدرتنا على البقاء بلا نوم، ولكن السؤال عن طول الفترة التي نستطيع أن نبقى فيها مستيقظين يبقى قائما. ويحمل الرقم القياسي في البقاء أطول فترة بلا نوم راندي غاردنر الذي كان طالباً في السابعة عشرة من العمر في مدينة سان دييغو بولاية كاليفورنيا حين سجله. ففي إطار مشروع معرض علمي عام 1964 بقي غاردنر مستيقظاً 264 ساعة متواصلة أو ما يزيد قليلا على 11 يوما، بحسب علماء راقبوه. وهناك كثرة من الروايات الأخرى لكنها ليست بالقدر نفسه من المصداقية، بما في ذلك قصة امرأة بريطانية فازت عام 1977 في مسابقة للاستمرار مستيقظة على كرسي هزاز بمواصلة هز نفسها 18 يوما دون توقف.
عموما لم يصدر حكم نهائي بشأن طول الفترة التي يمكن أن يبقى فيها الانسان مستيقظاً. ولعل من الأفضل ألا نحاول معرفة ذلك، فإن موسوعة غينيس للأرقام القياسية اعترافاً منها بالأضرار التي يمكن أن يلحقها الانسان بنفسه أوقفت رصد مثل هذه المحاولات لتسجيل أرقام قياسية منذ عشر سنوات.