للعلماء في مستقر الأرواح في البرزخ أقوالٌ يتلخَّص من أدلتها: أن الأرواح في البرزخ متفاوتةٌ أعظم تفاوت؛ فمنها أرواح في أعلى عليِّين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم فأعلاهم منزلةً نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ومنها: أرواح في حواصل طيرٍ خُضْر تسرحُ في الجنة، وهي أرواح بعض الشهداء لا كلهم؛ إذ إن من الشهداء من تُحبَس روحه عن دخول الجنة لدَيْن عليه؛ كما في المسند عن عبد الله بن محسن أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما لي إن قُتلْتُ في سبيل الله؟ قال: “الجنة” فلما ولَّى قال: “إلا الدَّين، سارَّني به جبريل آنفًا”. ومنها: أرواحٌ محبوسة على باب الجنة؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: “رأيت صاحبَكم محبوسًا على باب الجنة”. ومنها: أرواح محبوسة في قبور أصحابها. ومنها: أرواح في الأرض. ومنها: أرواح في تنُّور الزُّناة والزواني. ومنها: أرواح في نهر الدم تسبَحُ فيه، وتلقم الحجارة. كل ذلك تشهَدُ له السنة، والله أعلم. والحاصل: أن الدورَ ثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وقد جعل الله لكل دار أحكامًا تخصُّها، وركَّب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبعًا لها، وجعل أحكامَ البرزخ على الأرواح والأبدان تبعًا لها؛ فإذا جاء يوم حشر الأجساد، وقيام الناس من قبورهم، صار الحكمُ والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعًا. وكون القبرِ روضةً من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار مطابقٌ للعقل وحقٌّ لا مِريةَ فيه، وبذلك يتميَّزُ المؤمنون بالغيب عن غيرهم. ويجب أن يُعلَمَ أن النار التي في القبر والنعيم ليسا من جنس نار الدنيا ولا نعيمها؛ وإن كان الله تعالى يحمي عليه التراب والحجارة التي فوقَه وتحته؛ حتى تكونَ أعظم حرًّا من جمر الدنيا، ولو مسَّها أهل الدنيا لم يحسُّوا بها؛ بل أعجب من هذا: أن الرَّجلين يُدفَنُ أحدهما إلى جنب صاحبه، وهذا في حفرة من النار، وهذا في روضة من رياض الجنة، لا يصلُ إلى جاره شيء من نعيمه، ولا إلى هذا شيء من نار جارِه، وقدرةُ الله أوسعُ من ذلك وأعجب؛ ولولا هذه المغيَّبات العظيمة التي كُلِّف الناس بالإيمان بها من غير إحساس بها، لزالت حكمةُ التكليف.
الكاتب أنور النبراوي