بات “مصروف الدار” في الآونة الأخيرة، بمثابة عاصفة تحوّل البيوت الجزائرية إلى حلبات للصراع، خاصة في ظل الأسعار الملتهبة التي عرفتها مختلف المنتجات، ودفعت بالأزواج وأرباب الأسر إلى الوقوف عاجزين أمام
تغطية نفقاتهم اليومية، وهو ما يدفعهم إلى خوض رحلة بحث عن سبل وخطط سليمة لتنظيم نفقاتهم الشهرية أو ما يسمى بـ “مصروف الدار” تنجيهم من الوقوع في دوامة الديون و”الكريدي”، الأمر الذي لم يُوفق فيه الكثيرون، ليصبح “الكريدي” والشراء بالتقسيط هما مخطط تسيير “مصروف الدار” وحتى اقتناء الأغراض والتجهيزات.
أصبح الشراء بالتقسيط خلال السنوات القليلة الماضية عادة ارتبطت ارتباطا وثيقا بمجتمعنا الجزائري، حيث أن أغلب المحلات تعرض سلعها بصيغ متنوعة للتقسيط، تمتد من شهر إلى سنة وقد تصل أحيانا إلى سنوات عديدة خصوصا إذا ما تعلق الأمر بالسيارات والعقارات. ولعل المتمعن في المجتمع الجزائري يجده قد اتخذ من التقسيط أو الشراء بالكريدي أو مثلما يسميها البعض المرابحة شيئا من الضروريات التي تطبع يومياته، ويرجع البعض سبب ذلك إلى ضعف القدرة الشرائية أو إلى الطبيعة النفسية للمشتري أو غيرها من الأسباب الأخرى، التي ترى فيها الأسرة الجزائرية ملاذا لها خصوصا الفقيرة والمتوسطة الدخل التي تعجز عن دفع مبالغ كبيرة جراء اقتناء أحد حاجياتها. ولعل استفحال الظاهرة التي طغت بصورة كبيرة على مجتمعنا، جعلتنا تقف عندها للتمعن في أبعادها وكذا الظروف والأسباب المؤدية لها.
المصروف.. أكثر من المدخول
“كل شيء غالي…. المصروف كثر من المدخول وين تعيش يا الزوالي؟..)، انطباعات وأخرى لبعض المواطنين البسطاء الذين عجزوا عن إيجاد عبارات يعبرون بها عن وضعهم الذي بات يتأزم يوما بعد يوم، في ظل انخفاض مداخيلهم الشهرية، التي لم تعد توافق نفقات المصاريف اليومية، وفي هذا الصدد يقول “جمال” الذي يعمل حارس بلدية، إنه لم تعد هناك مكانة للأشخاص البسطاء أمام أصحاب “التاويل” كما وصفهم، الذين تتجاوز مداخيلهم الشهرية 100 ألف دينار، ويشاطره الرأي جاره “عبد الحكيم” الذي يقول إن الغلاء بات يعكر صفو حياتهم، وجعل حقوقهم في السكن والزواج وحتى الحصول على الأكلات اللذيذة أحلاما تتبخر، معلقا “كل شيء غالي إلا المواطن تنخفض قيمته يوما بعد يوم”، هي انطباعات لبعض الموظفين البسطاء الذين باتت لعنة الفقر تطاردهم، و تسرق منهم أدنى متطلبات العيش الكريم من مأكل وملبس.
اللجوء إلى “الكريدي” من أجل اقتناء الأغراض
أكد لنا السيد مراد عامل في أحد المصانع أن زوجته كثيرة الطلب وهي غالبا ما تقارن وضعهم بوضع أختها، وهو ما دفعه إلى التدين في مرات عديدة من أجل ارضاء رغباتها، مضيفا أنه وجد في الشراء بالتقسيط حلا وأمرا أسهل حتى و إن كان سعر ما يتم اقتناؤه أكثر إذا ما تم حساب الفرق. ولم يختلف رأي السيدة أم هاني عن رأي مراد، حيث أكدت أنها و منذ تواجد محلات البيع بالتقسيط لم تعد تعاني من مشاكل في اقتناء ما تحتاج و ما تريد، وأضافت وبحكم عملها في قطاع التعليم، فإن ذلك ساعدها كثيرا في تغيير أثاث البيت والاستفادة من سيارة بصيغة التقسيط، حيث يسمح الانتساب إلى النقابة الوطنية للتربية باقتناء أجهزة كهرومنزلية وذلك باعتماد آلية الاقتطاع الآلي للأجور وهو الأمر ذاته بالنسبة للسيارات بكل أنواعها.
هروب نحو التقسيط أوقعها في مشاكل
السيدة حليمة حالة من الحالات الكثيرة التي أنهكها التقسيط والتي كانت تظن اليوم بأنها ستوازن بين مصاريفها اليومية وبين ما تحتاجه، خصوصا وأنها كانت مقبلة على الزواج مما زاد من مصاريفها، فلجأت تارة إلى التدين من أصدقائها و أقاربها، وتارة أخرى لم تجد من ملاذ سوى الفرار نحو محلات البيع بالتقسيط من أجل إتمام جهازها وكذا من أجل شراء ما تبقى من فرش البيت، وهكذا تراكمت عليها الديون وعلى زوجها الذي لم يتوان هو الآخر في شراء ما يحتاجه من أجل بناء عش الزوجية من محلات البيع بالتقسيط والتدين من زملائه وأهله، و ما كان لحليمة و زوجها سوى الاستسلام لواقع لم يفرضه عليهما أحد سوى الظروف المعيشية وغلاء الأسعار و انخفاض قدرتهما الشرائية ليواجها 3 سنوات أسمتها حليمة سنوات الجحيم عوض من كونها سنوات العسل، وذلك لأنها قضت كل تلك الفترة هي وزوجها يكدان في العمل من أجل إتمام دفعات مشترياتهما التي بلغت أكثر من 30 مليون سنتيم، خصوصا وأن راتبيهما يتعدى 50 ألف دينار.
أرفض التقسيط في أشياء أعتبرها كماليات
سليم عامل في أحد المؤسسات الخاصة، مقبل على الزواج نفى أن يكون فد اتخذ من الشراء على دفعات وسيلة يقضي بها مقتنياته، وبرر ذلك كون الشراء بالتقسيط عبارة عن “ربا” يهدف من خلاله البائع تقسيم الدفعات على فترات “مربحة”، وأضاف أنه إضافة إلى كونها “حرام” فهي أيضا عبء اقتصادي على المشتري الذي تجعله حبيسا لما اشتراه من كثرة الديون المتراكمة.
يرى علماء الاجتماع أن التوجه الكثيف نحو التقسيط ولدته الحاجة والرغبة البشرية في الاقتناء، وذلك لا يخرج عن الإطار الطبيعي للنفس البشرية الطامعة دوما في الحصول على المزيد، غير أن التقسيط ورغم تبعاته الاقتصادية على المشتري والتي قد تكون سلبية، أوجد لنفسه لدى الطبقات المتوسطة والمحدودة الدخل فضاء لينمو ويتربع، ولا ينفي علماء الاجتماع سلبية التقسيط على الأسرة التي قد تصل أحيانا إلى تفككها بسبب النتائج السلبية له رغم كونه وسيلة سهلة تمكن من ليسوا قادرين على اقتناء ما يلزم دفعة واحدة.