كل أمة من الأمم لديها ما تفاخر به من رجال خطوا أسماءهم في منجزاتها، أو أيام كانت موعدا لانتصارها ومجدها، أو أحداث أظهرتها وأشهرتها. وامتازت أمة الإسلام عن سائر الأمم بأنها أمة كتابها محفوظ، ودينها موروث، وعلى وفق دينها بنت حضارتها، وسنت تشريعاتها، وتعاملت مع غيرها؛ فكانت أمة حق وعدل ورحمة حين كان غيرها من الأمم أهل باطل وظلم وقسوة. إن حضارة الإسلام هي أوسع الحضارات امتدادا عبر الزمان والمكان، فعمت أرجاء الأرض، وحكمت العالم ثلاثة عشر قرنا، ورغم هذا الاتساع الهائل والمدة الطويلة فإنها أقل الحضارات البشرية سفكا للدم، وتعذيبا للبشر، ونشرا للجوع والفقر؛ لأن دعاتها فتحوا قلوب الناس للإسلام قبل فتح بلدانهم بالسنان، ورأى الناس منهم الرحمة والعدل والإحسان فسلموا لهم.
إن حضارة الإسلام لما تمكنت في الأرض أقامت العدل في الجملة، وحكمت بين الناس بشريعة الله تعالى فأَمِن المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وأخذ كل ذي حق حقه. إنها حضارة لم تحتكر العلوم والمعارف، ولا الصناعة والتجارة، وأتاحت علومها ومعارفها لكل منتفع بها، وفتحت معاهدها ومصحاتها لكل محتاج إليها، فبرع في العلوم التجريبية من طب وهندسة وصناعة ونحوها النابغون من شتى الملل والأجناس، من يهود ونصارى ومجوس إضافة إلى المسلمين، ونعم بها روم وفرس وترك وغيرهم من الأجناس بالإضافة إلى العرب. وسبب ذلك ما أصَّله دينهم في نفوسهم من نفع الناس، وبذل المعروف لهم، والإحسان إليهم، ونصوص الكتاب والسنة قد روضت المسلمين على ذلك ” وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ” الحج: 77.
إنها حضارة لم تفسد الاقتصاد بالربا والقمار، ولم تخنق الفقراء بالغش والاحتكار، وراعت حاجة الكبير والصغير، والغني والفقير، والقوي والضعيف، والرجل والمرأة، والمسلم والكافر، فأعطت كل ذي حق حقه بلا زيادة ولا بخس. “مَرَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِشَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَسْأَلُ عَلَى أَبْوَابِ النَّاسِ فَقَالَ: مَا أَنْصَفْنَاكَ أَنْ كُنَّا أَخَذْنَا مِنْكَ الْجِزْيَةَ فِي شَبِيبَتِكَ ثُمَّ ضَيَّعْنَاكَ فِي كِبَرِكَ، ثُمَّ أَجْرَى عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يُصْلِحُهُ”. هذه الحضارة العظيمة وسعت الناس كلهم، وشهد لها المؤرخون من شتى الأديان والأجناس، وأقروا بأنها أعظم حضارة مرت على البشرية منذ دون التاريخ إلى زمننا هذا.. هذه الحضارة المميزة في جميع الميادين والمجالات.