قال تعالى ” سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ” الإسراء: 1. أُسريَ برسول الله صلى الله عليه وسلَّم ليلاً من المسجد الحرام في مكة إلى المَسجدِ الأقصى، فكان المَسجد الأقصى “بيت المقدس” نهايةَ الإسراء وبداية المِعراج؛ حيث ربطت هذه الرحلة بين مكانين شريفَين ربطًا روحيًّا. وسُمِّي أقصى لأنه أبعد المساجد التي تزار، وقيل: لبُعده عن المسجد الحَرام. أمَّا عن الحكمة مِن كَونِ الإسراء إلى بيت المقدس فيذكر الكاتب موسى محمد الأسود في كتاب “الإسراء والمِعراج” أنَّ مِن العُلماء مَن قال: ليجمع النبي في تلك الليلة بين رؤية القبلتَين، أو لأنه محلُّ الحشر، أو لأنَّ غالب الأنبياء هاجروا إليه قبله، فيَحصُل له الرَّحيلُ، وليجتمع بالأنبياء جملةً، وقد صلَّى النبي عليه الصَّلاة والسلام بهم جميعًا إمامًا.
فعن أبي هُريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “… وقد رأيتُني في جماعة مِن الأنبياء، فإذا مُوسى قائمٌ يُصلي، فإذا رجلٌ ضربٌ جعدٌ كأنَّه مِن رجال شنوءة، وإذا عيسى بنُ مريمَ عليه السلام قائم يُصلِّي أقربُ الناسِ به شبهًا عُروة بن مسعود الثقفيُّ، وإذا إبراهيمُ عليه السلام قائم يُصلِّي أشبهُ الناسِ به صاحبُكُم – يَعني: نفسه – فحانتِ الصلاة فأممتُهم” رواه مسلم. كما فُرضت الصَّلاة بهيئتِها المعروفة وعددُها وأوقاتُها اليوميَّة المعروفة على المسلمين في رحلة الإسراء والمعراج، وفي السماء؛ فهي صِلَة بين العبد وربِّه، ومعراجه الذي يَعرُج فيه إلى الله بروحه. وكانت قِبلة المسلمين في الصَّلاة بيتَ المقدِس، وتحوَّلت بعد الهِجرة بستَّة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، فصارَ المسجدُ الأقصى بهذا أُولى القبلتَين.
قال تعالى ” الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ” معنى البرَكة لغةً: النموُّ والزِّيادة في الخير، وشرعًا ثبوتُ الخير الإلهي في الشيء، وقال مجاهد: سمَّاه مُبارَكًا لأنه مقرُّ الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي، ومنه يُحشَر الناس يوم القيامة. وبركة بيت المقدس:
أولاً: بركة حسيَّة؛ بالأنهار والأشجار والثِّمار؛ مما أدَّى إلى النشاط الزراعي الكثيف، وكانت القدس من أخصب أراضي فلسطين، واشتهرت أراضي فلسطين بزراعة الزيتون الذي يُستخرَجُ منه الزَّيت ويُصدَّر إلى جميع أنحاء العالم، وقد أثبتتِ الدراساتُ الحديثة أنَّ زيت الزَّيتون الفلسطيني مباركٌ، وجودته تَرتفِع بالتدرج باستمرار الاقتراب من المسجد الأقصى، فالبركة تشمل الأرض وكلَّ ما يخرج منها، كما اشتهرت بزراعة أشجار الحمضيات والموز والتين والرمَّان، بالإضافة إلى الحبوب؛ كالقمح والشعير.
ثانيًا: بركة معنوية؛ وذلك بما لبَيت المقدس من خصائص يمتاز بها عن غيره، من ذلك أنَّ أرض فلسطين مَبعَث الأنبياء ومَهبط الملائكة؛ كداود وسليمان وعيسى عليهم السلام، وإبراهيم ولوط هاجَرا إليها؛ وفي الحديث الذي يرويه أبو هُرَيرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم قال ” لا تُشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجد الرَّسول صلى الله عليه وسلم، والْمسجد الأقصى” رواه البُخاريُّ؛ بيانًا لفَضلِ هذه المساجد على غيرها؛ لكونها مساجدَ الأنبياء، فالأوَّل قِبْلة الناس، وإليه حَجُّهم، والثاني كان قِبْلة الأمم السالفة، والثالث أُسِّس على التقوى.