أنوار من جامع الجزائر

كَيْفَ أُحَقِّقُ “أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ” ؟ – الجزء الثاني والأخير –  

كَيْفَ أُحَقِّقُ “أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ” ؟ – الجزء الثاني والأخير –  

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْأَفَاضِلُ: كَيْفَ أُحَقِّقُ “أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ” الْيَوْمَ؟ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخِدْمَةَ الْعَامَّةَ الْيَوْمَ لَا بُدَّ أَنْ تَتَجَاوَزَ الْمَفْهُومَ التَّقْلِيدِيَّ لِلْخِدْمَةِ الْاِجْتِمَاعِيَّةِ إِلَى مَفَاهِيمَ مُؤَسَّسِيَّةٍ وَحَضَارِيَّةٍ ؛لِأَنَّ حَاجِيَّاتِ النَّاسِ وَمَصَالِحَهُمْ تَعَدَّدَتْ وَتَعَقَّدَتْ، فَيُمْكِنُ أَنْ تَتَمَثَّلَ فِي: الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ الْاِحْتِرَافِيِّ بِأَلَّا يَكْتَفِيَ الْمُهَنْدِسُ أَوِ الطَّبِيبُ أَوِ الْمُحَامِي بِأَدَاءِ عَمَلِهِ بِمُقَابِلٍ، بَلْ يُخَصِّصَ جُزْءًا مِنْ وَقْتِهِ وَجُهْدِهِ لِخِدْمَةِ الْفِئَاتِ الضَّعِيفَةِ مَجَّانًا، أَوْ لِتَقْدِيمِ حُلُولٍ لِمَشَاكِلِ الْمُجْتَمَعِ. هَذَا يُحَقِّقُ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الصَّدَقَةِ الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهَا وَهُوَ “شُكْرٌ عَمَلِيٌّ لِلنِّعْمَةِ”. فِي الْخِدْمَةِ الْبِيئِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَهِيَ فِي مَعْنَى إِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ فِي عَصْرِنَا تَعْنِي: الْاِلْتِزَامَ بِقَوَانِينِ الْمُرُورِ لِحِفْظِ الْأَرْوَاحِ، وَالْحِفَاظَ عَلَى نَظَافَةِ الْبِيئَةِ وَالتَّشْجِيرِ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ الْعَامَّةِ، وَتَرْشِيدَ اِسْتِهْلَاكِ الْمَوَارِدِ. وَهِيَ سُلُوكِيَّاتٌ تَعَبُّدِيَّةٌ وَصَدَقَاتٌ لِأَنَّهَا تُحَقِّقُ النَّفْعَ الْعَامَّ. فِي جَبْرِ الْخَوَاطِرِ بِالْخِدْمَةِ النَّفْسِيَّةِ: فِي زَمَنٍ تَزَايَدَتْ فِيهِ الضُّغُوطُ النَّفْسِيَّةُ، يُصْبِحُ الْاِسْتِمَاعُ لِمَهْمُومٍ، وَالتَّبَسُّمُ فِي وَجْهِ مُكْتَئِبٍ، وَقَضَاءُ حَاجَةِ مُتَعَسِّرٍ مِنْ أَرْقَى أَنْوَاعِ الصَّدَقَاتِ وَالْخِدْمَةِ الْعَامَّةِ. إِنَّهَا عِبَادَةُ الْقَلْبِ الَّتِي تُرَمِّمُ الْجِرَاحَ وَتُهَدِّئُ الْأَرْوَاحَ. بِالْإِتْقَانِ فِي الْوَظِيفَةِ الْعَامَّةِ: فَالْمُوَظَّفُ الْحُكُومِيُّ أَوِ الْخَاصُّ الَّذِي يُنْجِزُ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ بِسُرْعَةٍ وَإِتْقَانٍ وَأَمَانَةٍ، يُمَارِسُ مَعْنَى “أَنْفَعِهِمْ لِلنَّاسِ” فِي أَبْهَى صُوَرِهِ؛ بِيَرْفَعُ الْحَرَجَ وَالْمَشَقَّةَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَفِي تَارِيخِ أُمَّتِنَا الْمُشْرِقِ صُوَرٌ عَظِيمَةٌ لِلْخِدْمَةِ الْعَامَّةِ مِنْ خِلَالِ مُؤَسَّسَةِ الْوَقْفِ، الَّذِي أَصْبَحَ بِفَضْلِ آلِيَّتِهِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَمَثِّلَةِ فِي تَأْبِيدِ الْأَصْلِ وَصَرْفِ الرِّيعِ، بِمَثَابَةِ الْخِزَانَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْاِجْتِمَاعِيَّةِ الدَّائِمَةِ لِلْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ؛ فَقَدْ نَجَحَتْ هَذِهِ الْمُؤَسَّسَةُ فِي تَحْوِيلِ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ إِلَى قُوَّةٍ دَافِعَةٍ لِلتَّنْمِيَةِ الشَّامِلَةِ، حَيْثُ مَوَّلَتْ بِشَكْلٍ مُسْتَدَامٍ أَهَمَّ الْقِطَاعَاتِ كَالصِّحَّةِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْبِنْيَةِ التَّحْتِيَّةِ. كَمَا ضَمِنَتْ آلِيَّاتُهُ الشَّرْعِيَّةُ اِسْتِمْرَارَ النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي وَوُصُولَ الْخَيْرِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، مُحَقِّقَةً بِذَلِكَ مَبْدَأَ عُمُومِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ. وَلَا تَزَالُ إِلَى الْيَوْمِ وَسِيلَةً نَاجِعَةً لِلْخِدْمَةِ وَالصَّدَقَاتِ الْجَارِيَةِ. إِنَّ الْأَزْمَةَ الَّتِي نَعِيشُهَا الْيَوْمَ لَيْسَتْ أَزْمَةَ نُصُوصٍ أَوْ نَقْصَ دُرُوسٍ، بَلْ أَزْمَةَ تَطْبِيقِ نُفُوسٍ. لَقَدْ كَانَ الْمَسْجِدُ فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ مَنَصَّةَ الْاِنْطِلَاقِ لِإِصْلَاحِ السُّوقِ وَالْمُجْتَمَعِ وَالْحَيَاةِ. وَلِكَيْ تَسْتَعِيدَ الْأُمَّةُ دَوْرَهَا الرِّسَالِيَّ لَا بُدَّ مِنِ اِسْتِعَادَةِ “الْخَيْرِيَّةِ” عَبْرَ التَّحَوُّلِ مِنْ أُمَّةٍ مُسْتَهْلِكَةٍ إِلَى أُمَّةٍ شَاهِدَةٍ وَمُنْتِجَةٍ. وَالتَّدَيُّنُ الَّذِي لَا يُرَى أَثَرُهُ فِي تَحَسُّنِ حَيَاةِ النَّاسِ، وَنَظَافَةِ الشَّوَارِعِ، وَقُوَّةِ الْاِقْتِصَادِ، وَاِنْضِبَاطٍ فِي الْمُجْتَمَعِ، هُوَ تَدَيُّنٌ مَنْقُوصٌ أَوْ مَغْشُوشٌ. فَمَا أَكْثَرَ طُرُقَ رِضَى اللَّهِ وَأَقْرَبَهَا إِلَى أَحَدِنَا، فَلْنَبْحَثْ عَنْ رِضَاهُ فِي مَسْحِ دَمْعَةِ يَتِيمٍ، وَجَبْرِ خَاطِرٍ مَكْسُورٍ، وَإِصْلَاحِ طَرِيقٍ، وَاِبْتِكَارِ دَوَاءٍ، وَلَوْ بِغَرْسِ شَجَرَةٍ أَوْ إِمَاطَةِ شَوْكَةٍ، وَهُنَالِكَ نَكُونُ حَقًّا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. وَالطَّرِيقُ إِلَى اللَّهِ أَقْرَبُ بِخِدْمَةِ عِبَادِهِ، وَإِطْعَامِ جِيَاعِهِمْ، وَتَعْلِيمِ جُهَّالِهِمْ، وَتَأْمِينِ خَائِفِهِمْ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر